قراءة نقدية لتأملات أفق المعرفة والشهادة

بسم الله الرحمن الرحيم

" وزنوا بالقسطاس المستقيم *ولاتبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " صدق الله العظيم

 

     كنت قد إطلعت قبل سنوات ، على مقال كتبه الاستاذ عادل عبد العاطي بعنوان ( تاملات في أفق المعرفة والشهادة حول حياة واستشهاد محمود محمد طه ) ، ولما كان المقال يعتمد في اثبات فكرته الاساسية ، على تصورات مسبقة ، ومعلومات سماعية ، واشاعات لا حظ لها من الصحة ، فقد تحدثت في ذلك الوقت عام - 1999 مع كاتب المقال ، وأوضحت له ذلك فوعد بالمراجعة ، وكنت اتوقع ان أرى المقال بصورة جديدة ، خاصة وان كاتب المقال جم النشاط في الحركة الفكرية والسياسية ، وكان يمكنه التحري من المعلومات وتصحيحها ..

  ولما أعيد نشر المقال كما هو دون تغيير ، بتاريخ 25 / 5 /2002 في منتدى السودانيين للحوار في "الانترنت" رأيت ان أعقب عليه ، على أمل إيضاح جانب من الفكرة الجمهورية ، لكاتب المقال ، وغيره من المهتمين ..  ذلك ان هذه الفكرة الرائدة ، هي الفكرة السودانية الوحيدة ، ومع ذلك لم تحظ حتى الآن بتقييم محايد من المثقفين السودانيين ، باستثناء قلة قليلة لا تزيد على أصابع اليد..

  أود في البداية إثبات الملاحظات الآتية ، على أن يتابع القارئ الكريم تفاصيلها ، والتعليق عليها ، في متن المقال :

1-      لم يتعرض المقال في صورته التي ظهرت عام 1999 أو صورته الحالية ، لجوهر الفكرة الجمهورية ، وانما أكتفى  باصرار الكاتب على أن الأستاذ محمود صوفي ، وان الصوفيه لا يتدخلون في السياسة، ولا ينشئون التنظيمات ، وان موقف الاستاذ محمود يتناقض مع خلفيته الفكرية ، وهذا في نظر الكاتب ما أدى الى مأساة الاستاذ محمود ، وايقاف حركته بعد ذهابه.. وكل ذلك  تقرير خاطئ ، كما سنوضح ، ومع ذلك بنى عليه الكاتب مقاله . .

2-      وحين تجنب المقال مؤلفات الاستاذ محمود ، وحاد عن أفق المعرفة التي أدعى انه سيناقشها ، ركن الى سماع الشائعات ، والأقاويل التي أشعاعها خصوم الفكرة ، واصدقاؤها ، ومن ذلك مثلاً قوله( مما لا ريب فيه ان محمود قد أوصى تلاميذه بتجنب الموت ومسايرة السلطة ، حتى ولو وفق مبدأ التقية)!! ولقد سبق أن أوضحت له بان ذلك لم يحدث ، ووعدني ان يبحث عن صحة هذه المعلومة ، ويغير مقاله وفقها .. فلماذا ظهر البيان بنفس المعلومة المغلوطة ، والتحليل الذي أعتمد عليها ؟ الجواب قريب : وهو ان الكاتب قد بنى مقاله ، على ان الاستاذ محمود صوفي ، وأنه كان يرغب في الموت ، ولذلك لم يرد لاصحابه ان يموتوا فأوصاهم بالتنازل ، والتراجع عن الحركة .. أقرأ قوله (هل كان محمود يبحث عن الموت ؟؟  هذا ما قد يتراءى من الوهلة الأولى ، في تعامل محمود مع المحكمة  ومع مجمل مؤسسات النظام ، في الشهور الأخيرة من حياته  وفتحه لمعركة واضحة ضد النظام وسياساته ، وهو الذي يعلم مبلغ الحقد الذي تكنه ضده القوى السلفية ، وخصوصاً جماعة الأخوان المسلمين ، كما لابد يعلم الطابع الدموي ، والطغيان المنفلت للسفاح نميري ..)!!

3-      اتسم المقال بالاضطراب ، فتأرجح بين الثناء على موقف الاستاذ  تارة ، وبين أدانته تارة أخرى ، فهو مرة يقول ( قد رفض محمود التعامل معها (المحكمة) وهذا وان كان بتقدير سياسي يحسب في دائرة الخطأ ...) ومرة أخرى يقول ( ان محمود بهذا النص القصير ( امام المحكمة) قد سجل تقدماً في الفهم السياسي لطبيعة النظام القائم ) !!

4-      أورد المقال شذرات من  بعض أراء الصوفية دون أن يناقشها ، وكأن خطأها أمراً مفروغاً منه ، ولقد كانت العلمية تقتضي ان يورد دفعهم عنها ، وشرحهم لها ، حتى لا يظن القراء ان أصحابها أوردوها بهذه الصورة المبتورة ، ودون حجة من صريح النصوص ..

5-    أدان المقال الجمهوريين بسبب عدم نقدهم لآراء الاستاذ محمود فقال  ( إلا ان الظلم الحقيقي يتبدى في فشل معظم اتباعه ومؤيديه  عن ان ينظروا بعين النقد والتحليل لنتاج فكره ونشاطه ومنهجه ..) والحق ان هذا واجب غيرهم من المثقفين ، لان الجمهوريين مؤمنين بصحة ، وصلاحية ، وواقعية أفكار الاستاذ محمود ، وهو يسعون لمعيشتها ، ويدعو بعضهم لاشاعتها وسط الناس .. فاذا كانت الفكرة الجمهورية تحتاج الى نقد ، فان المناقشة الموضوعية تتوقع من المثقفين ، ولقد كنت اود لو استطاع الاستاذ عادل ، القيام بهذا الدور ، ليضع ايدينا على الخطأ في صلب الفكرة ، بدلاً من مطالبتنا نحن ، بادانة الحق الذي لا مراء فيه .. أم لعل الاخ عادل يظن انه قد قام بهذا الدور ، بكتابته لهذا المقال الذي بين ايدينا؟! 

هل الاستاذ محمود صوفي ؟!

ان التصوف في حقيقته ، هو محاولة إتباع النبي صلى الله عليه وسلم في عمله في خاصة نفسه ، كل ما هناك ان الصوفية إعتبروا النبي الكريم ، على نهج مسدد قبل البعثة النبوية ، وبعدها ، فأخذوا يقلدون نهجه في العبادة قبل البعثة ، ومن هنا جاء انقطاعهم في المغارات ، يحاكون حاله حين كان يتعبد ، ويتحنث في غار حراء قبل نزول الوحي .. لقد ربى منهاج التصوف في العبادة ، والزهد ، والأدب ، والتواضع ، ومراقبة النفس ، والانشغال بعيوبها عن عيوب الناس ، رجالاً أفذاذاُ كانوا منارات هدى ومثابات رشد للامة ، يسعون الناس باخلاقهم ، وعلمهم ، وما أكرمهم الله به من الكرامات ، في غير تكلف ولا منة..

وحين انتصر معاوية بن ابي سفيان ، على الأمام علي بن طالب رضي الله عنه ، ودالت الدولة لبني أمية، قتل أل البيت في كربلاء ، ففر احفادهم بدينهم ، واعتزلوا الدنيا ، وركنوا الى الله ، ومنهم جاءت المناهج السلوكية التي قام عليها التصوف ، ولقد سمي التصوف بالادب ، فكان يقال أخذ العلم عن فلان ، يعنون الفقه، واخذ الادب عن فلان ، ويعنون به الطريق الصوفي .. ولقد أحب الاستاذ محمود السادة الصوفية ، وذكر تلاميذه بسيرهم واخبارهم ، وحثهم على زيارة قبورهم ، ومشاهدهم ، وانشاد اشعارهم.. ولما كان منهج الصوفيه ، اقرب المناهج الى السنة النبوية ، حيث ركزوا على العمل ، بخلاف الفقهاء الذين انشغلوا باستذكار الحواشى والمتون ، فقد اتفق الاستاذ محمود معهم في اساليب التربية ، في مراحل مختلفة ، من تطور المجتمع الجمهوري ، نحو المستوى العلمي الذي هو جوهر الفكرة ..

 وبمرور الزمن ، أضطر مشايخ الصوفية ان يضيفوا الأوراد ، والشعائر وتفرقت الطرق ، باصحابها ، ولما لم يسعوا هم لتغيير المجتمع أثر هو فيهم ، فآلت زعامة الطرق الى ابناء المشايخ ، فكانوا أقل كفاءة من آبائهم ، حتى  دبت الدنيا الى الطرق ، واصبحت الشعائر بلا روح ، وتحولت الطرق الصوفية الى طائفية ، يطاع فيها الزعيم دون ارشاد يقدمه لاتباعه ، وتحول زهد الشيوخ الى طمع في دنيا الاتباع .. ثم راينا في آخر الوقت ، أبناء زعماء الطرق ، يوالون الاخوان المسلمين ،أويخشون الوهابية !!  لقد قصر منهاج الصوفية الداعي لنبذ الدنيا ، والبعد عن تغيير المجتمع ،  عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لان النبي الكريم قد كان على زهده ، وعبادته ، يعيش في المجتمع، ويتفاعل معه ، ويسعى لتغييره ، وهذا هو النهج المتكامل الذي لا يهمل الدنيا ، ولا ينشغل بها عن الآخرة،  وهو هو نهج السنة ..

ولقد كان الاستاذ محمود محمد طه ، أول من نبه الى نهاية الطرق الصوفية ، ودعا أتباعها لتركها ، والأخذ بنهج السنة فقال ( الى الراغبين في الله ، السالكين اليه ، من جميع الاطرق ، وجميع الملل ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، أما بعد فان الزمان قد استدار كهيئته بوم بعث الله محمداُ داعياً اليه ، ومرشداً ، ومسلكاً في طريقه ، وقد انغلقت اليوم بتلك الاستدارة الزمانية، جميع الطرق التي كانت فيما مضى واسلة الى الله ، وموصلة اليه ، الا طريق محمد .. فلم تعد الطرق الطرق ، ولا الملل الملل ، منذ اليوم ... ان على مشائخ الطرق منذ اليوم ان يخرجوا انفسهم من بين الناس ومحمد، وان يكون عملهم أرشاد الناس ، الى حياة محمد ، بالعمل وبالقول ،  فان حياة محمد هي مفتاح الدين ، هي مفتاح القرآن، وهي مفتاح  لا اله الله التي هي غاية  القرآن ، وهذا هو السر في القرن في الشهادة بين الله ومحمد ، لا اله الا الله محمد رسول الله ).[1]

والسبب في نهاية الطرق الصوفية ، هو ان البشرية ، تطورت وتعقدت مشاكلها ، وساعد تطور المواصلات ، وسبل الاتصال ، في ربط ربط اطراف الارض ، بصورة لم تحدث من قبل ، فتهيأت البشرية، بفضل الله ثم بالتوحد الجغرافي ، الى فكرة واحدة توحد خلافاتها ، وتحقق حلمها في السلام المنشود ، وهذه الفكرة الانسانية، فيما نزعم ، حوتها السنة النبوية ولم تحوها كافة شرائع الأديان ، بما في ذلك الشريعة الاسلامية .. وجوهر السنة أقامة العدل في النفس ، وفي المجتمع ، ومن هنا جاءت الدعوة في الفكرة الجمهورية ، الى تنظيم حياة الناس، باقامة المجتمع الصالح ، كوسيلة اساسية لانجاب الفرد الحر .. يقول الاستاذ محمود ( واعادة الوحدة الى البنية ، تعني ان الانسان يفكر كما يريد ، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول ، وهذا هو مطلوب الاسلام ، وذلك حيث يقول " يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون " ولا يبلغ أحد هذا المبلغ الرفيع من الحياة ، الا بوسيلتين اثنتين أولاهما وسيلة المجتمع الصالح ، وثانيتهما المنهاج التربوي العلمي ، الذي يواصل به مجهوده الفردي ، ليتم به تحرير مواهبه الطبيعية من الخوف الموروث. والمجتمع الصالح هو الذي يقوم على ثلاث مساويات : المساواة الاقتصادية ، وتسمى في المجتمع الحديث الاشتراكية ، وتعني ان يكون الناس شركاء في خيرات الأرض ، والمساواة السياسية ، وتسمى في المجتمع الحديث الديمقراطية ، وتعني ان يكون الناس شركاء في تولي السلطة التي تقوم بتنفيذ مطالب حياتهم اليومية . ثم المساواة الاجتماعية وهي الى حد ما نتيجة المساويتين السابقتين ومظهرها الجلي محو الطبقات ، واسقاط الفوارق التي تقوم على اللون ، أو العقيدة ،أو العنصر ، أو الجنس من رجل وأمرأة ).[2]

 ولكن عادل على الرغم من كل ذلك ، لا يرى في الاستاذ محمود أكثر من صوفي ، فهو يقول ( ان تصنيفي الأول والاخير له يقوم باعتباره صوفياً ، صوفياً في ممارساته ، صوفياً في صورة استشهاده ورحيله ، وقد لا يدرك الكثير بما فيهم اتباع محمود ، ان جل افكاره تتماهى مع لب افكار الصوفية ) .. اما نحن فقد أوضحنا  خطأ هذا الرأي ، ونؤكد هنا ان الاستاذ محمود لم يهتم بقراءة التصوف ، وانما ركز على اتباع نهج السنة ، وحيث التقى فكره مع الصوفية ، ألتقى معهم حول حقائق الدين ، التي علمها مثلهم عن طريق التقوى ، فالاشياء التي يظنها عادل من مخترعات الصوفية ، انما هي ببساطة حقائق الدين ، التي يمكن ان تؤخذ من القرآن ، ولهذا فان قول عادل ( ان التناقض-أو التمايز- بين الظاهر والباطن ، بين الحقيقة والشريعة ، والذي هو ركن اساسي في نظرية المعرفة عند الصوفية ، قد تحول عند محمود الى تناقض وتمايز الاصول والفروع في القرآن ...) يحتاج الى مراجعة .  فالظاهر والباطن في معاني القرآن ، سببه ان القرآن كلام الله ، والله ( هو الاول والآخر والظاهر والباطن ) ، وكلامه صفة قديمة ، قائمة بذاته ، ولذلك فقد جاء ايضاً ظاهر وباطن .. والحقيقة هي معرفة اسرار الذات الالهيه ، والشريعة هي الاحكام من الاوامر والنواهي ، التي باتباعها يقوى الفكر ويسدد ، فيستطيع معرفة هذه الاسرار ، والتأدب مع الله وفق هذه المعرفة ، وهذا لايتطابق ولا يترادف ، مع الاصول والفروع ، لان كلاهما شريعة ، كل ما هناك ان الفروع شريعة اسلامية تناسب الماضي ، والاصول شريعة اسلامية تناسب العصر الراهن ، الاصول هي السنه عائدة لتكون شريعة المجتمع الحديث ، وهذا هو محك الخلاف بين الفكر الجمهوري والتصوف .. فالقول بان الاسلام مستويين ، وان الشريعة لا تناسب الواقع ، وانما السنه هي التي تناسبه ، لم يقل به أحد قبل الاستاذ محمود لا من الصوفية ولا من غيرهم .. أما قول عادل ( ان محمود في فكره يتماهى مع الحلاج والسهروردي وابن عربي ) فهو ما دل على ان يحتاج ان يتعرف على التصوف بصورة أدق.. فالحلاج ليس بموضوعه عبرة كبيرة عند الصوفية ، لانه كان في حالة فناء ، في حالة جذب ، لم يشعر فيها حتى بالتعذيب والصلب ، فقد روي ان الجنيد مر به ، وهو مصلوب ، وقد قطعت اطرافه ، فقال له : ( لم تركتهم يخربون بيتك؟ قال: أنا لست فيه وانما ذهبت للقاء ربي !! ) .. ويقرب حال السهروردي من الحلاج ، وقد قتل مثله بسبب الشطح .. أما الشيخ الاكبر محي الدين بن عربي ، فقد استوى على معرفة كبيرة ، ولكنه لم يكن مسلكاً أو مرشداً ، وهو كسائر الصوفية ، لم يسع الى تغيير حياة الناس .. فاذا كان لا بد لكاتب المقال ، من ان يشبه موقف  الاستاذ ، بموقف احد السلف ، فانه أشبه بموقف الامام الحسين رضي الله عنه ، فقد سعى الى الاصلاح والتغيير ، وبذل نفسه ، بكل وعي ، بغرض الوفاء لقضية التغيير ، هذا مع فارق ان الحسين عليه السلام ، كان يسعى داخل اطار الشريعة ، ولذلك قاتل بالسيف ، بينما دعا الاستاذ محمود لنهج السنة، ولهذا واجه بالنقد السلمي .. 

يقول عادل ( المأساة الكبرى في حياة محمود وفكره ، انه حاول دمج طريق الصوفية الذي هو طريق للخلاص والمعرفة فردي ، قائم على البعد عن العالم والزهد فيه ،والبعد عن الجماعة والانصراف عنها، والبحث عن الحقيقة في ذات الانسان الصوفي ،والوصول الى الله والى منابع الحق منفرداً ، حاول جمع كل ذلك مع طريق جماعي ونشاط اجتماعي وطريق مخالف تماماً لنهج الصوفية الفردية ... ان تناقض محمود وحركته اراه في تناقض الطريق الفردي الصوفي للمعرفة والسلوك ، مع الشكل الجماعي الواسع المكشوف للنشاط الذي اتخذته حركته وهو تناقض كان لا بد ان يؤدي للانفجار ، وتحطيم احد طرفي التناقض ) .  . ولعل غاية ما يرمي اليه الاخ عادل ، هو ان يؤكد ان الفكرة الجمهورية ، ليست فكرة سياسية قادرة على تغيير المجتمع ، وهو ليصل الى هذا التقرير المريح ، لكافة الحركات العلمانية ، واليسارية بصورة خاصة ، حاول جهده ، ان يركز على ان الاستاذ رجل صوفي ، وليس رجل سياسة .. لهذا فهو يقول ( لقد رفض محمود مطلق التعامل معها "المحكمة" وهذا وان كان بتقدير سياسي يحسب في دائرة الخطأ ، حيث كان يمكن تحويل المحكمة ، بعمل سياسي وقانوني منظم ، الى مظاهرة كبرى ضد النظام ، كما تم في محاكمات فاطمة أحمد ابراهيم ، والبعثيين في ذلك الوقت ، وان يتم بذلك غل يد القتلة، قانونياً وتحريك العمل الشعبي سياسياً وتعبوياً الا ان الصوفي عند محمود له مرجعية أخرى ، انها مرجعية التسليم (سلمت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفاً وما انا من المشركين ) ..

  أول  مايجب ايضاحه ، في هذه العبارة المليئة بالاغلاط ، هو ان تقدير الاستاذ في مقاطعة المحكمة، قد كان في المقام الأول ، لاعتبار الحق ، فما دامت المحكمة قد كونت بقوانين تتعارض مع جوهر الدين (كرامة الانسان) ، ومع حقوق الانسان ، فان التعاون معها، هو اقرار مبدئي باهدار هذه القيم ، خاصة اذا علم انها وضعت ، واستغلت، لتبرير ظلم النظام الحاكم .. أما في المقام الثاني فان المقاطعة لهذه المحاكم ، عمل سياسي، في القمة ، ذلك لان كسر هيبتها يهز السلطة التي كونتها، ويوضح للشعب، الخلل فيها ، ومبلغ مخالفتها لابسط قواعد العدالة، فيسوقه للثورة .. وهذا ما حدث بالمقاطعة والمواجهة ، ثم الصبر على اقسى نتائج المحاكمة .. فقد تأثر الشعب وثار وأسقط نظام مايو ، ولم يحدث ذلك بسبب التكتيك ، الذي تم في محاكمة الاستاذة  فاطمة أحمد ابراهيم أو البعثيين .. ان تضامن المحامين ، والانفعال والتظاهر في القاعة في محاكمة فاطمة ، لم يكن هو السبب في عدم تعرضهم لما تعرض له الاستاذ محمود ، وانما السبب ان النظام لم يكن يراهم أخطر خصومة ، ولم يكن يائساً تماما ، ً من ان يصل معهم ، لصيغة يأمن بها شرهم ، والا فان النظام الذي طرد القضاة ، وعطل الدستور، لم يكن ليحفل بأي مقاومة قانونية .. يقول عادل ( ان شهادة محمود في المحكمة ، تشكل على قصرها قمة أدب السهل الممتنع ، وشهادة وإفادة للتاريخ والاجيال .. كما انها تعبر عن درجة عالية من النضج السياسي والفكري، وبها وحدها أدان محمود قوانين سبتمبر الى أبد الدهر  ادان السلطة وقضاتها المأجورين ووضع على جبينهم وصمة العار الأبدية .. لقد أصبح محمود اذن  هو القاضي الحقيقي وشاهد العصر وضمير الشعب ...)  .. هذا تقييم الاخ عادل لموقف الاستاذ محمود !!  فهل ترى كان يمكن ان يكون بنفس المستوى ، لو وقف الاستاذ نفس موقف الاستاذة فاطمة والبعثيين ؟!

 وليس التسليم للارادة الالهيه ، هو مرجعية الصوفي وحده كما يظن عادل ، وانما هو مرجعية النبي الكريم عليه السلام ، فقد قال تعالى في حقه ( قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وانا أول المسلمين ) ، والاسلام في هذه القمة الشماء ، انما هو التسليم الواعي للارادة ، وهو أرفع مستويات الدين ( ومن أحسن ديناُ ممن أسلم وجهه الى الله وهو محسن ) .. والتسليم لا يعني السلبية والتقاعس ، وانما يعني ان تقوم بالواجب المباشر ، جهد الاتقان ، ثم ترضى بالنتيجة التي قدرها الله ، وتلك ايجابية ما بعدها ايجابية .. وعكس التسليم السخط وعدم الرضا ، وهذا هو العمل السلبي ، لأن ما حدث لا يمكنك أرجاعه ، فلماذا تذهب نفسك عليه حسرات ، بدلا من الانصراف الى الواجب المباشر الجديد؟! ولقد كان التسليم مرجعية الاستاذ محمود ، ولكن بعد ان قام بالواجب الديني ، والواجب السياسي على أتم وجه .. ومن أخطاء عادل في عبارته السابقة ، الآية القرانية فقد أوردها ( سلمت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفاً وما انا من المشركين )  وصحة الآية هي (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض حنيفاً وما أنا من المشركين ) ..

يقول عادل ( ان محمود بهذا النص القصير ، قد سجل تقدماً في الفهم السياسي لطبيعة النظام القائم ، مقابل تقليص لجانب الاجتهاد الفكري المختلف عليه، حيث لم يبني رفضه لقوانين سبتمبر على اسس ايدولوجية "عدم صلاحية الشريعة للقرن العشرين وعودة الاسلام بالسنة لا بالشريعة"  وانما على اسباب قانونية وسياسية "التشوية في هذه القوانين لمبادئ الشريعة المدرسية ، والغرض السياسي القهري من تطبيقها" انها واقيعة اكثر تجاوز بها محمود نفسه وتنظيمه بوعي سياسي عال وحس وطني وتاريخي مرهف وعميق ) .. ان النص الذي يتحدث عنه عادل هنا، هو كلمة الاستاذ محمود أمام المحكمة وهي الكلمة التي بدأها بقوله ( أنا أعلنت رأي مراراً في قوانين سبتمبر83 من انها مخالفة للشريعة وللاسلام ) فهو قد فرق منذ اللحظة الاولى ، بين الشريعة والاسلام ، وهذا التفريق يعتمد على ايدولوجيته المختلف عليها ، خلافاً لما قرر عادل ، ثم ان المنشور موضوع المحاكمة ، ذكر صلاحية السنة وعدم صلاحية الشريعة .. ان مشكلة عادل هي انه لم يستطع ان يرى ان  كلمة الاستاذ ، وما جاء فيها من حديث  ادان تشوية الاسلام ، وعدم استغلال القضاء ، وادان ظلم الشعب وتسخير المحاكم المسيسة لاذلاله ، هو من اسس الفكرة الجمهورية ، وان الاستاذ بهذا المنحى السياسي لم يتجاوز فكره ولا تنظيمه ، وانما ساقت الاحداث الفكر ليلامس الواقع ، فتأثر به الناس ، وكان يمكن لعادل ان يرى ذلك ،  لولا انه حبس نفسه ، باصرار غريب ، في فكرة ان الاستاذ صوفي وليس سياسي !!

والاستاذ محمود لم يبدأ رجل دين ، أو متطرقاً صوفياً ، وانما بدأ بالتعليم المدني ، وارتقى فيه حتى آخر المراحل في عصره ، فتخرج من كلية غردون التذكارية مهندساً مدنياً، وحين عمل مهندساً بالسكة حديد بعطبرة ، أشتهر بمقاومة الانجليز ، حتى نقلوه نقلاً كيدياُ ، فخرجت كل مدينة عطبرة تودعه .. ثم نشأ الحزب الجمهوري مناهضاً للاستعمار، فكان الاستاذ محمود أول سجين سياسي في السودان ، وذلك عام 1945 . ولقد قاد الاستاذ محمود ثورة رفاعة ، التي ناهض فيها قانون الخفاض الذي سنه الانجليز ، بغرض اهانة الشعب ، بالتدخل في عاداته ، ثم اظهاره بالتخلف ومنعه من ثم حق تقرير المصير.. ولقد أوضح الجمهوريون في ذلك الوقت _ منشور صدر عام 1946- انهم لا يؤيدون عادة الخفاض ، ولكنهم مع ذلك يرفضون الطريقة ، التي شرعت حكومة  المستعمر ، تحارب بها هذه العادة ، التي لا تستأصل الا بالتربية .. وبعد ان نحى الحزب الجمهوري ، منحاً دينياً كتب الاستاذ محمود كتاب اسس دستور السودان ، لقيام حكومة فدرالية ديمقراطية اشتراكية في عام 1954 . ودعا فيه الى تقسيم السودان الى خمس ولايات ، واوضح ان النظام الديمقراطي ، انما يتدرج من النظام البرلماني الى الرئاسي ، الى الديمقراطية المباشرة .. وفي ذلك فصل في انشاء حكومة القرية ، وحكومة المدينة ، وحكومة الولاية ، ثم الحكومة الفدرالية .. وتحدث عن الدستور ، وعن حقوق الانسان.  كما شرح خلال حركته فكرته الاشتراكية ، وسندها من القرآن . واوضح مراحل التطبيق في السودان ، وكيف تبدأ بوضع حد أدنى وحد أعلى للأجور ، على الا يكون الحد الاعلى أكثر من سبعة اضعاف الحد الادنى ، ورفع شعار " ساووا السودانيين في الفقر الى ان يتساووا قي الغنى" .. وطرح مسالة ان الغاء الملكية الفردية، يجب ان تتجه  الى إقامة التعاونيات ، والا رجع النظام الى راسمالية الدولة .. ثم فصل كيف ان زيادة الانتاج من مصادر الانتاج ، وعدالة التوزيع ، تسوق الى تحقيق الاشتراكية ، كمرحلة مقدمة نحو الشيوعية ، التي فيها يكون الناس شركاء فيما يملكون ، وهو ما أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال ( كان الاشعريون اذا املقوا أو كانوا على سفر وضعوا ما عندهم على ثوب واقتسموه بالسوية أولئك قوم هم مني وانا منهم ) .. كما أوضح في سائر كتبه ، ان ماعجزت عنه الحضارة الغربية ، هو الجمع بين الديمقراطية والاشتراكية ، في جهاز حكومي واحد .. ونقد الماركسية ، كمدرسة من مدارس الاشتراكية ، لها حسناتها ، وعليها سيئاتها ، وتنبأ بفشل وسقوط الشيوعية الدولية في الستينات !! وتناول فكره الشامل مشاكل السودان فكتب عن مشكلة الجنوب ، ورفع شعار " حل مشكلة الجنوب في حل مشكلة الشمال " منذ الخمسينات !! وكتب في قضية المراة ، ودعا الى المساواة التامة بين الرجال والنساء ، واثبت ان ذلك جوهر الاسلام الذي قصرت عنه شريعته لحكم الوقت.. وكتب في التربية ومناهج التعليم .. كما تعدى حدود السودان فكتب عن السلام العالمي ، وعجز الراسمالية .. ووقف وحده ، في مناهضة الهوس الديني ، وأظهر عجز دعاته في ميزان الدين وفي ميزان الحضارة  .. فاذا كان من يؤسس لكل هذه المواضيع ، في فكر متسق لا يضطرب ولا يلتوي ، تصحبه تربية أخلاقية عالية ، وقد اخرج ما يزيد على مائة وخمسون كتاباً ، وزعت منها عشرات الالاف من النسخ ، يحملها المؤمنون بهذا الفكر من الرجال والنساء في الطرقات ، يطرحون هذا الفكر في أركان نقاش يومية في المؤسسات التعليمية ، اذا كان من فعل كل ذلك ، لا يعتبر مفكراُ سياسياُ فليخبرنا الاخ عادل من هو المفكر السياسي؟! 

الجمهوريون : ما لهم وما عليهم

   يقول عادل عن الجمهوريين ( واذا كان اتباعه قد ظلموه في حياته فقد فعلوا ذلك عندما حملوه اكثر مما يحتمل من آيات التقدير والتقديس ، فلم ينظروا الى فكره بمنظار النقد العلمي التاريخي . وحين ربطوا مجمل حركتهم بشخصه وحين رأوا فيه الكمال . وظلموه أكثر حينما روجوا قبل أيام من موته أوهاماً لا يسندها منطق حول عدم قدرة الحكام على أغتياله ، فتركوه بذلك في يد الموت وحيداً في وقت كان أكثر ما يحتاج فيه الى التضامن وغلوا بذلك ايادي قوى شعبية كثيرة كانت سحائب غضبها تتجمع ضد النظام.  وحين زعم بعضهم استحالة اعدامه وضعوا الناس قسراً في حالة ترقب في انتظار المعجزة واخلوا بذلك الساحة بينه وبين السفاحين. وظلمه بعض اتباعه بعد موته حين تراجعوا بغير انتظام ودعموا تراجعهم بفكرة انه مات فداء لكل الشعب مدخلين مزيداً من الغيبية على معنى موته البطولى النبيل وجاعلينه ستار للاحباط والسلبية دون ان يفرقوا بين معاني الفداء الايجابي المحرك لدواعي النضال والتضحية السلبية التي ترتبط بالانكسار والاستسلام) ..

أول ما تجدر الاشارة اليه هنا ، هو ان الاستاذ محمود لم يسمح للجمهوريين بان يقدسوه ، فقد انشغل بعبوديته لربه و زهد في السيطرة على الناس ، وسار بين اتباعه يعلمهم التفكير ويحثهم على النقد ، ويربيهم تربية الاحرار.. ولكن موقف الجمهوريين، بعد تنفيذ الحكم على الاستاذ ، انما كان نتيجة صدمة ، سببها فقدانهم الانموذج الرفيع، الذي وجدوا طعماً لحياتهم في معيته ، فلم يكن غريباً ان تحدث هزة في النفوس ، يتأثر بها التفكير ، وتشل بها الحركة .  والذين زعموا ، منهم ، بان الاستاذ لن يمكن الله منه هؤلاء السفاحين ، كان منطلقهم محبة الاستاذ.. ورغم ان مثل هذا القول يعتبر في موازين الفكرة خطأ، لانه تقييد للارادة الآلهية ، بمستوى علمنا أو آمالنا ، الا انه موقف ديني ، مقبول ، في مستوى العقيدة الذي يقوم على الايمان .. ولعله اشبه بموقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين التحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ، فقد قال ( من قال ان محمداُ مات علوته بسيفي هذا ) !! ولم يرجع عن موقفه ، الا حين أظهر له ابوبكر رضي الله عنه ، المعرفة الاكبر، وذلك حيث قال ( من كان يعبد محمداً فانه قد مات ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يموت )!! وقرأ الاية " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ؟! ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ).. ولقد رجع كثير من الجمهوريين الى أنفسهم ، واستعانوا بمنهجهم في تلمس الحكمة ، والرضا بالارادة الآلهية  ، وخرجوا من أزمتهم على تفاوت لهم في ذلك ، بمرور الزمن ..

أما النقد المقبول في حق الجمهوريين ، فهو انهم عجزوا ، بعد فترة طويلة من ذهاب الاستاذ ، عن استئناف حركتهم . واسهموا بذلك ، في غيابها عن الساحة ، ومكنوا ، من ثم ، لخصومها واعدائها ، وشاركوهم ولو بحسن نية ، في وأدها، حتى نشأت اجيال لا تعرف شيئاً عن الاستاذ ولا عن الفكرة .. وحين أوقف الجمهوريون حركة الترشيد الداخلية ، وحركة الدعوة الخارجية ، وظل مجتمعهم متماسكاً إجتماعياً ، بقريب مما كان عليه في الماضي ، ضعف تحقيق الافراد ، من قيم السلوك الديني الرفيع ، وضعف الفكر ، وأصبح الجمهوريون يعيشون على تذكر ماضي ، حركتهم مع الاستاذ .. وبتوقف حركة التربية ، والترشيد ، والنقد ، تأخرت الفكرة في أولويات الأفراد ، وتباعدت آراءهم ، وضعف تحقيقهم.. و تأثر مجتمعهم الى حد ما، بالمجتمع الخارجي الذي كانت رسالتهم هي تغييره ..هذه مفارقة ، وعجز لا استثني منه نفسي ولا أحد من أخواني واخواتي .. ورغم عدم وجود الحركة،  انضمت مجموعات كبيرة من الشباب ، الى الجمهوريين ، وتعلقوا بالقيم التي يجسدها كبار الجمهوريين ، ولكنهم لم يجدوا التوجية ، والترشيد ، أوحتى شرح الفكرة نفسها ، مما زاد المجتمع ترهلاً ، وبعداً عن مستوى الفكرة .. ولما اصبح إدعاء الالتزام لا يستتبع مسئولية في حمل الدعوة ، ومصادمة خصومها ، أوفي الالتزام االدقيق المراقب للسلوك الفردي ، انضمت مجموعة من اصحاب الاغراض، وبعض المندسين من كوادر تنظيمات أخرى، الى مجتمع الجمهوريين ، فاخذ بعضهم يكتب أو يتحدث ، بلسان يشبه الجمهوريين ، ويمارس من السلوك ، ما يسئ للفكرة عند من يعرفها ، وادى ضعف التنظيم ، والعفوية ، والمجاملة الزائدة ، الى عدم مساءلتهم ، وايقاف عبثهم ، ورفض سلوكهم ، الذي يتعارض مع جوهر الفكرة.. وكل هذه السلبيات ، ما كان لها ان تحدث ، لو كانت الحركة ولو بشقها الداخلي ، مستمرة بصورتها الفكرية المعروفة ..

ومما يجب ان يعرفه الناس ، أن الجمهوريين تحاوروا كثيرا ،ً ولا زالوا يتحاورون ، حول موضوع ايقاف الحركة أو استئنافها .. فالذين كانوا يرون ايقاف الحركة ، حجتهم ان الفكرة الجمهورية ليست مجرد حركة فكرية ، أو حزب سياسي لتستأنف حركته ، بمجرد تنفيذ الاعدام على مؤسسه.. وانما هي حركة بعث ديني ، كان يقودها رجل محقق لمستوى من العلاقة بالله ، والمعرفة  بالدين لم تتأت لغيره .. ولما لم يكن في اتباعه من يقرب ولو من بعيد من مقامه ، فان الحركة اذا استؤنفت ربما اصبحت تشويه لفكره ، وربما كانت منفرة وضارة .. يضاف الى ذلك ، ان الجمهوريين مستهدفين ، من كافة القوى السلفية ، في داخل السودان وخارجه ، وان الحكم على الاستاذ ، والذي اعتمد على حكم الردة ، سيظل سيفاً مشرعاً فوق رؤوس اتباعه ، فاقامتهم للحركة ، وهي حركة سلمية ، مبرأة من العنف ، ومن استعمال السلاح ، انما يعني الانتحار الجماعي.. وهو امر لا فضيلة دينية فيه ، واولى منه ايقاف الحركة ، والانشغال بالسلوك الفردي ، والانتظار حتى يقضي الله أمراُ كان مفعولاً ، وهم يؤملون ان يظهر الله امر دينه ، في اى لحظة ، على النحو الذي يريده .. ولقد وجد كثير من الجمهوريين ، في هذه الحجج ، متكأ للتنصل من مسئولية السلوك والحركة ، واتخذ بعضهم من عجزهم فضيلة ، فانشغلوا عن نقد أنفسهم ، بتبرير تقصيرهم بان الحركة مستحيلة ، وعاشوا حياتهم كغيرهم من الناس ، لا يميزهم غير اصرار بعضهم على القول بانهم جمهوريين ..

 والذين يرون ضرورة الحركة ، لم يتفقوا مع هذا الرأي ، وعندهم لو ان ابوبكر الصديق رضي الله عنه قد قال به ، عشية التحاق النبي عليه السلام بالرفيق الأعلى ، لانتهى الاسلام ولم يصل الينا ، ولم تكن هناك فكرة جمهورية .. ورغم انهم يوافقون على ان قامة الاستاذ  ، لا شبيه لها ، الا انهم يرون ان واجبهم ، هو الدعوة للفكرة على قدر طاقتهم ، ومعرفتهم ، في صدق واخلاص .. وهم يرون ان الصمت عن الفكرة ، وإيقاف الحركة ، انما هو امر مغاير لاتجاه الاستاذ ، الذي لم يوقف الحركة حتى آخر اللحظات ، ولم يوص بايقافها حتى بعد حكم الاعدام ، بل على العكس كان يدعو لتصعيدها .. وهم أيضاً، يرون صعوبة الحركة و يشعرون بخطورتها، ويرون امكانية ابتداع اساليب في محدوديتها ، حتى تتغير الظروف ، ولكنهم لا يرون ان بطش أي سلطة ، هو سبب كاف لانهاء حركة فكرية ، ذلك ان مقاومة الدكتاتورية والهوس الديني هي مسئولية الافكار المستنيرة ، قبل ان تكون مسئولية الشعب عامة .. والانتظار الروحي لامر الله ، عند هؤلاء ،  لا يكون في فراغ ، وانما يجب ان يتم اثناء الحركة نفسها، ذلك ان الاستاذ نفسه ، وهو اكبر  المنتظرين لأمر الله وبعث الدين ، كان يعمل في منشطه ومكرهه لهذا الامر ..

وكان من نتائج هذا الحوار ، ومن التطور الطبيعي ، ان بدأت حركة محدودة ، متعثرة ، لبعض للجمهوريين في السودان، واستطاع الجمهوريون بالخارج ، ان ينشئوا موقعاً في الانترنت ، انزلوا فيه معظم مؤلفات الاستاذ ، وبعض الاناشيد العرفانية ، وتسجيلات لمحاضرات ، وبريد الكتروني لنقل اخبار مجتمعهم ، واثارة بعض الحوارات بينهم ، وقاعة لقاء صوتية تنشدون فيها ، ويتحدثون في بعض المواضيع ، وكان لهذا العمل اثر كبير ، في تعريف الكثيرين بالفكرة ، وتوفير مادة للباحثين ، ووصل الجمهوريين في جميع انحاء العالم ببعضهم البعض .. ومع ذلك ، فان هذا جهد لا يوجهه تنظيم ، وانما هي مبادرات فردية ، لاتزال في مراحلها البدائية ، والناشطون فيها لم يوظفوها حتى الآن ، في الاتجاه المطلوب ، من النظر في حال المجتمع ، والبحث الجاد للخروج من هذا التيه ..

وإني لأوكد هنا لمن عسى يحتاجون الى تأكيد، ان الخلاف بين الجمهوريين ، يختلف عن الانقسامات والصراعات ، التي نراها في الاحزاب ، والتنظيمات الاخرى .. ذلك ان المصالح الذاتية ، الضيقة ، هي التي تدفع المختلفين في تلك التنظيمات ، الى الاحتراب ، والتآمر ، والحقد والاضرار ببعضهم البعض .. فالجمهوريون رغم اختلافهم حول الحركة العامة ، وحوارهم المستمر حولها ، ونقدهم لبعضهم البعض ، لازالوا يلتقون على محبة صادقة ، واحترام متبادل ، وتقدير عميق لبعضهم البعض ، وتعاون بينهم لا يوجد في غيرهم من المجتمعات ، وانما كان ذلك كذلك ، بفضل الله ، ثم بفضل الفكرة ، التي قامت على قدر كبير من التربية الفردية ، وفق المنهاج النبوي الشريف .. واني لأرجو ان يتدارك الجمهوريون أمرهم ، فهم بذلك جديرون، وينهضوا بفكرتهم ، قبل ان تدركهم النذارة الآلهيه ( وان تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) ..

بؤس النقد اليساري:

 درج بعض المثقفين اليساريين ، أو الذين تأثروا بالافكار اليسارية ، في بعض مراحل حياتهم ، الى محاولات متفرقة لنقد الفكرة الجمهورية .. ولعل ماشجعهم على هذا الاتجاه ، بالاضافة الى غياب حركة الجمهوريين من المسرح ، النموذج المنفر عن الدين الذي طرحته الجبهة الاسلامية.. فقد ظنوا ان الفهم الاسلامي التقليدي ، لن يستطيع منافستهم حين تسقط الجبهة ، وان الفرصة اصبحت سانحة  ليكونوا جبهة عريضة من الفكر التقدمي ، خاصة وان بعضهم قد تخلوا عن الماركسية، بعد سقوط الشيوعية الدولية ، وأخذوا يروجون لليبرالية الغربية .. ولهذا رأوا ان يؤسسوا نقداً للفكرة الجمهورية ، حين راوا اهتمام الناس بها ، باعتبارها فكراً تقدمياً رائداً خاصة بعد موقف الاستاذ الأخير .. ولما لم يستطيعوا ان يجدوا أي مدخل على الفكرة في أصولها ، بحثوا عن المواقف السياسية ، ولعلهم جميعاً اعتمدوا على ما كتب د. محمد سعيد  القدال أستاذ التاريخ بجامعة الخرطوم عن ثورة رفاعة . فقد ذكر ان الاستاذ محمود دافع عن الخفاض الفرعوني ، وواجه الحكومة البريطانية بسبب ذلك !! ولقد قابله الجمهوريون وصححوا له هذا الفهم الخاطئ ، واوضحوا له انه كمؤرخ كان يجب ان يكون قد اطلع على بيان الحزب الجمهوري الذي صدر عام 1946 وقد  أكدوا فيه انهم لا يؤيدون عادة  الخفاض الذميمة ، ولكنهم يعارضون تدخل المستعمر في عادات الناس وأخلاقهم .. ولقد تبع اتجاه د. القدال ، د. محمد احمد محمود ، وركز عليه في مقال باللغة الانجليزية نشر في قائمة حوار السودانيين تحت عنوان ( بداية ونهاية الحركة الجمهورية ) ولقد علقت عليه في نفس الموقع ، خاصة وانه زاد على د. القدال ، واعتبر الاستاذ محمود عدو المرأة !! كما تحدث عن تأثر الاستاذ بالصوفية ، ولعل مقال الأخ عادل هذا ، قد تأثر كثيراً بمقال د. محمد محمود ، فقد حاول كلاهما ان يؤكد ان الاستاذ محمود صوفي وانه لذلك أخطأ في السياسة !!

وفي لندن أقاموا فليماً سينمائياً عن الخفاض الفرعوني ، دعوا له المفتش البريطاني الذي كان قد حضر ثورة رفاعة ، وفي بداية الفيلم ملأت صورة الاستاذ محمود الشاشة ، مع صوت باللغة الانجليزية ، يقول ان الاستاذ كان مدافعاً عن الخفاض الفرعوني !! وحين حاول الأخ عرمان محمد أحمد التصدي لهذا الاتجاه ، وطلب فرصة للتعقيب ، أخطر بانه ليس هناك فرصة للنقاش !! ومن امثلة هذا النقد غير المسئول ، ما كتبه المنصور جعفر الذي ذكر ان نصر حامد أبوزيد ، تفوق بجدارة على الاستاذ محمود !! وذكر ان الاستاذ محمود اقحم الحزب الجمهوري في الطهارة الفرعونية !! ومن أبأس هذه الكتابات ما كتبه الأخ د. محجوب التيجاني  في حواره مع أحد الاخوان الجمهوريين ، بعد ذكرى 18 يناير حيث قرر نهاية حركة  الجمهوريين ، ودعاهم بجرأة لا يملكها العارفون  للانضمام للحزب الشيوعي !!

وحتى لا أظلم كل الأخوة الذين تأثروا بالفكر اليساري، أود ان أختم هذا الحديث بماكتبه الأخ د. عبد الله بولا ، في مقال نقد فيه الفكرة الجمهورية ، بمستوى عال من المسئولية العلمية ، ودقة الفكر.. فقد قال (اضيف ان مساهمة الاستاذ محمود محمد طه لم تقف باصالتها عند حدود التجديد النظري ، بل امتدت الى كافة مجالات العمل الحركي السياسي والتربوي المنظم . فقد كان تنظبم الاخوان الجمهوريين نموذجاً ممتازاً للجماعة الملتزمة المنضبطة النشيطة. وكانت حلقات حوارهم التعليمية "ندوة الخميس" ومؤتمراتهم واركان النقاش في الشوارع والؤسسات التعليمية "وهي تقليد ابتدعوه ثم انتشر عنهم في الحركة الفكرية والسياسة في السودان" صوراً حية للممارسة الديمقراطية الراشدة...) الى ان يقول عن المحاكمة ومواجهة الموت ( كان هذا حديث الرجل الى المحكمة التي كان يعلم انها اضمرت قتله أو اذلاله بالتراجع عن آرائه ، حديث رجل سلط على عنقه سيف إرهاب مشرع مديد طوله ألف وثلاثمائة عام ونيف، فما زاغ بصره وما طغى ولا أقول لم يرمش له طرف ، بل لم يهتز منه ظل من خاطرة في أعمق أعماق طبقات وعيه الباطن :

              وقد كان فوت الموت سهلاً        فساقه اليه الحفاظ المر والخلق الوعر

وامام المشنقة ثانياً : فعندما أحكموا حبل الموت حول عنقه وازاحوا غطاء الرعب عن وجهه االوضئ ، وجدوا رجلاً يبتسم لا ساخراً ولا مستهزئاً بالموت بل موقناً بالفداء الكبير مطمئناً الى اختيار ربه منسجماً حتى النهاية مع منطقه التوحيدي وهذا أقصى ما يصل اليه الصدق. وهكذا فقد مضى "الى الخلود بطلاً ورائداً وقائداً رعيل الشهداء ورمز ايمان جديد بالفداء..... وبالوطن ". أقول هذا وأنا جد مستوحش من أن اكون قد أسات الوقوف في حضرة هذا الشيخ الجليل )[3]..

 

هذا وللأخ عادل والاخوان الذين أعادوا نشر مقاله شكري وتقديري ..

 

                                                                              عمر القراي

                                                                           الولايات المتحدة الامريكية 30 /5 /2002

 

 

 

 

 

 

 

 



  1- محمود مجمد طه (1969 ) طريق محمد. الطبعة الثالثة. أمدرمان. ص:22-23                                                                         

  2- محمود محمد طه (1973 ) الرسالة الثانية من الاسلام.  أمدرمان . ص 171                                                                

[3] 3-  عبد الله بولا (1996) محمود محمد طه والتجديد في الفكر الاسلامي.القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان.رواق عربي ص45