حوار مع الاستاذ عمر القراى
اهتم
الاستاذ عمر القراى ؛ بالحوار مع شخصى الضعيف ؛ وافرد من وقته وجهده ؛ ما سمح له
بتسطير مقاله:" قراءة نقدية
لتأملات أفق المعرفة والشهادة" ؛ فى محاورة لما كتبته عن سيرة وحياة
واستشهاد الاستاذ محمود محمد طه ؛ زعيم الاخوان الجمهوريين ومؤسس الفكرة الجمهورية
؛ فى مقالى الراجع للعام 1999 ؛
والمعنون : " تاملات فى افق
المعرفة والشهادة – حول حياة واستشهاد محمود محمد طه ".
والاستاذ
عمر القراى فوق التزامه بالفكر الجمهورى ؛ ومعرفته الثرة به وبكتابات الاستاذ
محمود محمد طه ؛ فهو كاتب وباحث فى التراث وقضايا الحاضر ؛ وهو من اعلام التيار
الاسلامى التجديدى ؛ وتغدو مساهماته حول المراة والاسلام ؛ والجهاد وحرية الاجتهاد
؛ وغيرها مساهمات قيمة فى اضابير المكتبة السودانية والفكر السياسى السودانى .
واذ
كانت الكتابة الحالية لا تطمح الى حوار تفصيلى عميق ؛ مع اطروحات الاستاذ القراى ؛
فانها تحاول تصحيح بعض المعلومات ؛ وتوضيح منهجى فى البحث ؛ السير بعض خطوات فى درب الحقيقة ؛ والتى اعتقد انها
ضالتنا المشتركة ؛ اعنى الاستاذ عمر القراى وشخصى الضعيف.
يكتب
الاستاذ عمر :
كنت قد إطلعت قبل
سنوات ، على مقال كتبه الاستاذ عادل عبد العاطي بعنوان ( تاملات في أفق المعرفة
والشهادة حول حياة واستشهاد محمود محمد طه ) ، ولما كان المقال يعتمد في اثبات
فكرته الاساسية ، على تصورات مسبقة ، ومعلومات سماعية ، واشاعات لا حظ لها من
الصحة ، فقد تحدثت في ذلك الوقت عام - 1999 مع كاتب المقال ، وأوضحت له ذلك فوعد
بالمراجعة ، وكنت اتوقع ان أرى المقال بصورة جديدة ، خاصة وان كاتب المقال جم
النشاط في الحركة الفكرية والسياسية ، وكان يمكنه التحري من المعلومات وتصحيحها ..
والحقيقة
ان بعض ما كتبه الاستاذ عمر صحيح ؛ فقد ارسلت له فى ذلك العام نسخة من مقالى ؛ حال
فراغى من كتابته ؛ كما ارسلت نسخة الى العديد من المهتمين ؛ وقد كان الاستاذ عمر
مبادرا فى الرد وتقديم بعض المعلومات ؛ وابداء الراى فى منهجية المقال . وقد سعدت
برده واستاذنته فى نشر رده على الملا ؛ فاذن لى وقمت فى حينها بنشر الرد على قائمة
السودان الجديد للحوار والتراسل NSMDL ؛ فليرجع اليه من يود الاطلاع علية فى
ارشيف هذه القائمة .
الا ان رد الاستاذ عمر ؛ قد كان فى نقطة واحدة يتعلق
بمعلومة ؛ كان قد تحصل لى من قبل نقيضها ؛ وفى نقطة اخرى يتعلق بالمنهجية ؛ وقد
اوضحت له اختلافى معه فيها . وفى هذا وذاك ؛ لم اجد فى رد الاستاذ عمر حينها من
المسوغات ؛ ما يجعله يفترض ان مقالى قائم على تصورات مسبقة ، ومعلومات سماعية ، واشاعات لا حظ لها من
الصحة ؛ وغيرها من الاحكام
التى تفضل بذكرها فى المقدمة ؛ فوصل الى حسم الحوار قبل ان يبدأه .
ويواصل الاستاذ عمر فيقول :
وحين
تجنب المقال مؤلفات الاستاذ محمود ، وحاد عن أفق المعرفة التي أدعى انه سيناقشها ،
ركن الى سماع الشائعات ، والأقاويل التي أشاعها خصوم الفكرة ، واصدقاؤها ، ومن ذلك
مثلاً قوله( مما لا ريب فيه ان محمود قد أوصى تلاميذه بتجنب الموت ومسايرة السلطة
، حتى ولو وفق مبدأ التقية)!! ولقد سبق أن أوضحت له بان ذلك لم يحدث ، ووعدني ان
يبحث عن صحة هذه المعلومة ، ويغير مقاله وفقها .. فلماذا ظهر البيان بنفس المعلومة
المغلوطة ، والتحليل الذي أعتمد عليها ؟ الجواب قريب : وهو ان الكاتب قد بنى مقاله
، على ان الاستاذ محمود صوفي ، وأنه كان يرغب في الموت ، ولذلك لم يرد لاصحابه ان
يموتوا فأوصاهم بالتنازل ، والتراجع عن الحركة ..
واعود
واؤكد مرة اخرى صحة ما ذكر عن حوارى مع الاستاذ عمر ؛ الا انى اصححه فاقول بانى ؛
حين لم يتح لى الوقت لتصحيح المقال ؛ فقد اوردت
المعلومة التى ذكرها لى فى هوامش المقال ؛ ونشرت المقال بهامشه ذاك على موقعى بالانترنت ؛ واعاد نشره آخرون
مع نفس الهامش ؛ وفى هذا الهامش الذى
كتبته مباشرة بعد حوارى مع الاستاذ عمر ؛ اوردت التالى:
فى
حوار لاحق لى بعد كتابة هذا المقال ؛ مع الاستاذ عمر القراى ؛ اوضح لى وجهة نظره
بان معلوماتى بهذا الصدد خاطئه ؛ حيث لم يطلب الاستاذ محمود من اتباعه حينها
التراجع عن افكارهم بل طلب منهم على العكس
التمسك بها وتقديم التضحية ؛ وقال القراى انهم ببساطة عجزوا عن ذلك ..واذا كان الامر كما ذكر
الاستاذ القراى ؛ فان معظم الجزء الاخير من المقال الحالى يحتاج الى اعادة صياغه ؛
الامر الذى سنقوم به –فى
اطار مناقشة فرضية استاذ القراى - فى مكان آخر . ما يهمنا ههنا انه حتى ولو صدقت
معلومة الاستاذ القراى ؛ فمواجهة محمود للموت وحده وانشراحه فى مواجهته تثبت قسطا
كبيرا من تحليلاتنا .
والشاهد هنا انى ذكرت معلومة الاستاذ القراى بحذافيرها ؛ وزعمت بانها
لو صحت ؛ فهى ستغير الجزء الاخير من المقال ؛ ووعدت بالرجوع اليها فى مكان آخر . لكنى
اكدت ايضا ؛ بان صحة المعلومة لن تغير الكثير من فرضيات المقال ؛ كونها فرضيات
عامة ؛ تعتمد على قراءتى لمواقف الاستاذ محمود ؛ وعلى العبرة من سيرة حياته .
وافيد الان بان هذه المعلومة كما ذكرها استاذ القراى لم تغير من رؤيتى العامة ؛
وانما من تفاصيلها ؛ ولا ازال اتمسك
بالكثير من وجهة نظرى التى وردت فى ذلك المقال.
يقرر الاستاذ عمر القراى :
لم
يتعرض المقال في صورته التي ظهرت عام 1999 أو صورته الحالية ، لجوهر الفكرة
الجمهورية ، وانما أكتفى باصرار
الكاتب على أن الأستاذ محمود صوفي ، وان الصوفيه لا يتدخلون في السياسة، ولا
ينشئون التنظيمات ، وان موقف الاستاذ محمود يتناقض مع خلفيته الفكرية ، وهذا في
نظر الكاتب ما أدى الى مأساة الاستاذ محمود ، وايقاف حركته بعد ذهابه.. وكل
ذلك تقرير خاطئ ، كما سنوضح ، ومع
ذلك بنى عليه الكاتب مقاله . .
ان
فى تلخيص الاستاذ القراى لجوهر المقال فيما اعتقد ؛ تبسيط مخل ؛ فقد تناولت فيه
العديد من المحاور ؛ عدلا صوفية محمود . كما ان المقال قد كتب عن الاستاذ محمود
كشخص ؛ وليس عن الفكرة الجمهورية فى عمومها؛ وقد كان فى مجمله مجرد تاملات فى افاق
المعرفة والشهادة التى اجترحها ؛ وكان عنوانه الثانى ؛ حول حياة واستشهاد الاستاذ
محمود محمد طه . وهذا ان دل على شى ؛ فانما يدل على ان غرضنا لم يكن هو دراسة
الفكرة الجمهورية بتفاصيلها ؛ او سرد سيرة الاستاذ من ناحية تاريخية . وانما كتب
المقال استقبالا للذكرى ال15 لاستشهاد الاستاذ محمود ؛ وكان بمثابة وردة وددت لو
اضعها على ضريحه ؛ ومحاولة للوصول الى الحكمة من التجربة ؛ والتى قال عنها الاستاذ
محمود ؛ بان التجربة التى لا تورث
حكمة ؛ تكررنفسها .
ويواصل
الاستاذ القراى فيقول :
أدان
المقال الجمهوريين بسبب عدم نقدهم لآراء الاستاذ محمود فقال ( إلا ان الظلم الحقيقي يتبدى في فشل
معظم اتباعه ومؤيديه عن ان ينظروا
بعين النقد والتحليل لنتاج فكره ونشاطه ومنهجه ..) والحق ان هذا واجب غيرهم من
المثقفين ، لان الجمهوريين مؤمنين بصحة ، وصلاحية ، وواقعية أفكار الاستاذ محمود ،
وهو يسعون لمعيشتها ، ويدعو بعضهم لاشاعتها وسط الناس .. فاذا كانت الفكرة
الجمهورية تحتاج الى نقد ، فان المناقشة الموضوعية تتوقع من المثقفين ، ولقد كنت
اود لو استطاع الاستاذ عادل ، القيام بهذا الدور ، ليضع ايدينا على الخطأ في صلب
الفكرة ، بدلاً من مطالبتنا نحن ، بادانة الحق الذي لا مراء فيه .. أم لعل الاخ عادل
يظن انه قد قام بهذا الدور ، بكتابته لهذا المقال الذي بين ايدينا؟!
ورغم
ان الاستاذ عمر يبدا فى صدر مقاله من التبرير ؛ والقاء المسؤولية على الاخرين ؛
الا انه فى متن مقاله ياتى للموافقة على بعض ارائى ؛ ويكيل
من النقد للجمهوريين ؛ ما لامسته انا
مجرد ملامسه ؛ ولا اعتقد انى فى تقييمى للجمهوريين ؛ ولردة فعلهم بعد مقتل
الاستاذ ؛ قد اختلفت كثيرا عن اراء الاستاذ عمر عن رفاق دربه ؛ وحالة الانكفاء
والنكوص التى ركبتهم ؛ ولا تزال تتلبس الكثير منهم . .
كمالا ازعم انا ان مقالى ذاك المتواضع ؛ قد قام
بمهمة النقد والتحليل للفكر الجمهورى ؛ وذلك بسبب ظروفه التى قام فيها ؛
ولامكانياتى المتواضعة فى هذا الصدد ؛ ولاسباب اخرى . الا انى قد حاولت مقاربة هذه
المهمة ؛ حين كتبت مقالا بعنوان :"الاخوان الجمهوريين تحت منظار النقد
والتاريخ 1945-1985 "؛ والذى قمت بنشر الجزء الاول منه على الشبكة
العالمية ؛ وببعض الصحف . وقد تفضل الاخوان ياسر الشريف وعمر عبدالله بالرد على
بعض اطروحات هذا المقال ؛ وتصحيح بعض المعلومات . ورغم انى قد اخذت بعين الاعتبار
تصحيحاتهما فيما يتعلق بالاحداث ؛ الا انى احتفظت برايى كما هو فيما يتعلق
بالتحليل ؛ والذى يعتمد على منهجى ونظرتى ؛ وليس منهج الجمهوريين او نظرتهم .
وفى
الرد على كل من المقالين ؛ عن محمود والجمهوريين ؛ والذين حرصت على ارسال نسخ
منهما الى بعض الجمهوريين للاستئناس بارائهم ؛ فقد كانت بعض التعليقات حادة جافة ؛ فى اسلوب لم اعهده من
الجمهوريين ؛ وكنت اتمنى لو كان الاحترام مشتركا ؛ والنظر بعين العطف الى الاجتهاد
مبذولا ؛ حتى ولو ارتكب صاحبه
الاخطاء ؛ طالما كان مبغاه الحقيقة وحاول ان يلتزم فيه بقواعد البحث والمراجع
المتوفرة .
يقول
الاستاذ عمر :
أورد
المقال شذرات من بعض أراء الصوفية
دون أن يناقشها ، وكأن خطأها أمراً مفروغاً منه ، ولقد كانت العلمية تقتضي ان يورد
دفعهم عنها ، وشرحهم لها ، حتى لا يظن القراء ان أصحابها أوردوها بهذه الصورة
المبتورة ، ودون حجة من صريح النصوص ..
وفى
الحقيقة فقد دهشت لهذه الفقرة . فحين اوردت شذرات من اقوال الصوفية ؛ فلم اشر
تلميحا او تصريحا بانها خطا ؛ ولم افترض الخطا فيها . وانما اعتمدت علييها كنصوص
تفسر رؤيتى لماساة محمود ؛ وذلك مثل قول الجنيد " لا يبلغ أحد درج الحقيقة ؛ حتى
يشهد فيه ألف صديق ؛ بأنه زنديق" ؛ وفى متن النص اوردت اقوال لبعض الصوفية ؛
وذلك لمقاربة الاتفاق والاختلاف بينها وبين اطرحات الاستاذ محمود ؛ ولم يكن موقفى
منها فى كل ذلك موقف الحكم ؛ ناهيك ان افترض خطأها او ادفع القارى الى هذه النتيجة
؛ والتى لم تطرا على بالى ؛ ولا ادرى تحت اى ظرف توصل اليها الاستاذ القراى .
بعد
هذه المقدمة ؛ حاور الاستاذ عمر اطروحاتى فى ثلاثة محاور رئيسية ؛ وهى صوفية
الاستاذ محمود ؛ وتقييم الجمهورين ما لهم وما عليهم ؛ وبؤس النقد اليسارى للفكر
الجمهورى ؛ وفى هذا الصدد فانى اعلق ببضع جمل عامة ؛ دون الدخول فى التفاصيل .
اما
حول صوفية الاستاذ محمود ؛ فقد اورد الاستاذ عمر ما يراه من طريق الصوفية ؛ ومن
مقاربتها لسنة الرسول ؛ ومن تقدير الاستاذ محمود للصوفيين . وهو فى كل هذا وذاك لم
ينقض ما رايناه من تماهى الفكر الصوفى مع الفكر الجمهورى ؛ وقد راينا نحن ان منهج
الاستاذ محمود ؛ حين يتقارب مع الصوفية ؛ الا انه ايضا يتقاطع معها ؛ فكتبنت :
أن محمود في فكره ؛ يتماهى مع الحلاج والسهروردى وابن عربي ؛ وان كان
في صورة سودانية معصرنة ؛أي بالشكل الذي فرضه واقع الزمان والمكان الجديدين
إن محمود بتنظيمه للحزب الجمهوري ؛ ومن بعد للإخوان الجمهوريين ؛ قد خالف
طريق الصوفية الفردي ؛ فإذا كانت العلاقة بين الصوفي والمريد ؛ بين الشيخ والحوار
؛ بين القطب والسالك ؛ هي علاقة فردية قائمة على الاتصال الشخصي والتأثير المباشر
؛فان محمود حاول بناءها عن طريق تنظيم ؛ رابطة ؛ جماعة ؛ تغير اسمها من الحزب إلى
الإخوان ؛ إلا إنها احتفظت دائما بصورتها كتنظيم له أفكاره الفلسفية والاجتماعية
وله نشاطه السياسي .[i][iv]
ومن الطبيعي أن نمو الأحزاب السياسية والنقابات ومعركة الاستقلال ؛ وهى
الأحداث التي عاصرها محمود ؛ ووجود ونشاط التنظيمات الدينية القديمة والجديدة ؛ في
شكل طرائق دينية أو طرق صوفية أو حركات سلفية ؛ قد فرضت على أي مفكر جاد الانخراط
في درجة من درجات العمل التنظيمي والفعل الاجتماعي والسياسي ؛
إن محمود في سعيه لنشر فكره ؛ قد كان مواجه بمشكلة الأداة ؛ وقد
اختارها بان يطرح كل أفكاره أو جلها في كتبه وإصداراته ؛ حتى يتصل بها مع تلاميذه
ومؤيديه ؛ لكنه بهذا طرحها أمام الجميع ؛ فعرضها بذلك لسوء الفهم –أو سوء النية –
المعشعشة في البيئة السلفية ؛ التي حاصرت بها المؤسسات الدينية
الرسمية المسلم العادي في وسط وشمال السودان لعشرات السنين.
انى وان ان زعمت مماهاة سيرة الاستاذ للسهروردى والحلاج
؛ بنهايتهما الماساوية ؛ الا اننا رايت ان قتل كل منهم قد كان لاسباب سياسية ؛ حيث
كتبت :
وفى الحقيقة فهناك تشابهات مذهلة ما بين شخصية محمود ومصيره وشخصية الحلاج ومنتهاه – يذكر هادى العلوي أن الحلاج قد قتل
لتأسيسه تنظيما سريا لمعارضة السلطة ؛ وليس لشطحاته الصوفية – ومحمود رغم انه لم
يذهب إلى مرحلة الحلاج ؛ من معارضة
السلطة منذ البدء أو تصريحات
الانجذاب ؛الا انه قد قتل حتما لاسباب سياسية.
ان هذا الذى ذكرت ؛ يقف فى تناقض واضح مع النتيجة التى توصل اليها
الاستاذ عمر القراى ؛ حيث يكتب :
. ولعل غاية ما يرمي اليه الاخ عادل ، هو ان يؤكد ان
الفكرة الجمهورية ، ليست فكرة سياسية قادرة على تغيير المجتمع..
ويمضى الاستاذ عمر ؛ فى تحليل طويل لسلوك الاستاذ محمود السياسى ؛
ليصل لاثبات التناقض والاضطراب فى
تحليلاتنا ؛ الذى اشار اليه فى
البدء ؛ حين قال :
اتسم المقال بالاضطراب ، فتأرجح بين الثناء على موقف الاستاذ تارة ، وبين أدانته تارة أخرى ، فهو مرة
يقول ( قد رفض محمود التعامل معها (المحكمة) وهذا وان كان بتقدير سياسي
يحسب في دائرة الخطأ ...) ومرة أخرى يقول (ان
محمود بهذا النص القصير ( امام المحكمة) قد سجل تقدماً في الفهم السياسي لطبيعة
النظام القائم ) !!
وانى ازعم بن لا تناقض ولا اضطراب ؛ فموقف محمود الكلى بعدم التعامل
مع المحكمة احسبه فى دائرة الخطا
السياسى ؛ حيث كان يجب اتخاذ موقف اكثر ايجابية من مجرد المقاطعة . وفى هذا لا
ادعو انا الى الانكسار للقانون
الظالم وقضاة السوء ؛ كما فعل الاب فيليب عباس غبوش ؛ وانما الى مقارعة الجلادين ؛
وهزيمتهم حتى فى المحاكم؛ والاستفادة من التحركات الشعبية ؛ والتى حصرها
الجمهوريون فى انفسهم ؛ بمسيراتهم السلمية . ورفضوا التنسيق مع الاخرين ؛ لبناء
جبهة مقاومة لمحاكمة الاستاذ ؛ ولتسيير المظاهرات ضدها – وهذا ما حدث فى عطبرة
مثلا – وفى كل هذا فقد ضيعوا فرصا للعمل المعارض لا تعوض .
اما تقييمى العالى
لمقولة الاستاذ امام المحكمة ؛ وهى تفصيل خرج به عن عموم رفض التعامل ؛ فينبع من
تسجيلها لتطور موقف محود ووصوله الى
قناعات راسخة مع الديمقراطية والتعددية وكرامة الانسان ؛ ومقاربته للفكرة
العلمانية ؛ وقطعه لاخر الخطوط مع النظام المايوى ؛ والذى وقف معه الجمهوريين فى
كل تقلباته حتى العانم 1983 .
وانى اذ احيى الاستاذ عمر فى ايصاله لنا المعلومات عن تطور حركة
الجمهوريين بعد مقتل الاستاذ ؛ ونقده لبعض المواقف والاراء والسلوكيات ؛ من موقعه
هو كجمهورى ؛ فانى لا ازال احتفظ بارائى التى سطرتها فى ذلك المقال ؛ واضيف اليها
فى تقييم الجمهوريين ما كتبته عنهم تحت منظار النقد والتاريخ ؛ وهو مقال اعد بنشر
الجزء الثانى منه قريبا بالشبكة العالمية .
وتبقى نقطة اخيرة ؛ وهى متعلقة ببؤس النقد اليسارى ؛ والذى احسب ان
الاستاذ عمر يضمنى اليه ؛ حيث كتب فى متن مقاله :
. ولعل غاية ما يرمي اليه الاخ عادل ، هو ان يؤكد ان الفكرة
الجمهورية ، ليست فكرة سياسية قادرة على تغيير المجتمع ، وهو ليصل الى هذا التقرير
المريح ، لكافة الحركات العلمانية ، واليسارية بصورة خاصة ، حاول جهده ، ان يركز
على ان الاستاذ رجل صوفي ، وليس رجل سياسة ..
اننى حين بدات كتابة المقال مثار الحوار ؛ لم ارم كما ذكرت الى تقييم
الفكرة الجمهورية فى مجملها ؛ او الاخوان الجمهوريين ؛ وانما حاولت ان استشف كنه
هذه الشخصية العظيمة المعقدة فى آن ؛ وان اصل الى محركها الاول فى سلم القيم . ولم
انف ان لمحمود وجهه السياسى ؛ وان رايت ان وجهه المعرفى – الصوفى –السلوكى اهم
كثيرا من وجهه السياسى – الاجتماعى .
واعود هنا واكرر بانى اذا نظرت للاستاذ محمود كقمة من قمم الفكر
والمواقف والانسانية فى مجتمعنا السودانى ؛ فاننى انظر الى جماعة الخوان
الجمهوريين كجماعة تضائلت كثيرا عن ان تلحق بخطاها ؛ سيرة مؤسسها العظيم . ويكون تقييمى النهائى لها سلبيا ؛ وهى
ابعد عندى ما تكون ؛ بصورتها السابقة والراهنة ؛ عن تقديم اجابات واقعية وشافية
لحاجيات المجتمع السودانى ؛ وبعيدة كل البعد عن التقدمية التى يراها فيها بعض
اتباعها او المتعاطفين معها .
الا ان موقفى هذا لا ينبع من حسابات سياسية ؛ فقد كنت من المعارضين
لاصدقائى اليساريين الذين راوا فى هذه الحركة فى فترة ما ترياقا ضد الحركة
الاصولية ؛ وان فكرها يمكن ان يشكل ايديولوجية للتجديد الدينى فى السودان . ودعوت
ولا زلت ادعو الى ان يحدد الجمهوريين والليبراليين واليساريين اراؤهم واضحة فى
القضايا المفصلية للمجتمع السودانى ؛ من قضايا الهوية الثقافية والتعددية ودولة
القانون والعدالة الاجتماعية وحقوق المراة والشباب والقوميات المهمشة . كما دعوت
اكثر من مرة لان يعمل الجميع اداة النقد والمراجعة لكل ارثهم الفكرى والسياسى
والتنظيمى ؛ وذلك لتجديد الحياة الفكرية والسياسية فى السودان ؛ وبذلت جهدى فى
محاورة التيارات الرئيسية للفكر السودانى ؛ حسب ما اتاحته لى معرفتى المتواضعة ؛
وفى هذا الاطار كان اهتمامى بالفكر الجمهورى وكانت كتابتى لهذا المقال .
الا ان الانسان يظل دائما حبيس تجاربه ومحيطه وقراءاته وخياراته فى الحياة ؛ وفى ذلك
فقد كتبت الى صديقة شابة ؛ من المتاثرات بالفكر الجمهورى ؛ حين ناقشتنى حول نفس
المقال ؛ فقلت :
"اما عن ما ناقشتيه عما ورد من آراء فى مقالى عن الاستاذ محمود ؛ فلك الشكر على كلماتك
اللطيفة ؛ والتى تشعرنى بان هناك صدا لما اكتبه وافكر فيه ؛ وفى الحقيقة فرغم
تعميمى لهذا المقال فى الانترنت ؛ وطلبى من العديد من الاصدقاء والمهتمين ابداء
رايهم فيه ؛ فقد جائنى الرد من بعض الاصدقاء فى بولندا - حيث اقيم – ومن الاستاذ عمر القراى ؛
والذى قدم رده لى معلومات مهمة ؛ ساضمنها فى اى محاولة قادمة لاعادة كتابة هذا
المقال وتعميمه على نطاق اوسع ؛ وفيما عدا ذلك فقد فضل الكثيرون الصمت الدفين
؛ فشكرا على الاهتمام .
وفى الحقيقة فان اهتمامى بالفكر الجمهورية ودور الاستاذ قديم ؛ حيث
كنت طوال فترة المدرسة المتوسطة على
علاقة قريبة بالجمهوريين فى عطبرة ؛ والتهمت حينها معظم كتابات الاستاذ ومطبوعات
الجمهوريين . وقد كدت قريبا من الانضمام لهم ؛ الا ان ما منعنى حينها ما كان من
موقفهم المؤيد للنظام – قبل قوانين سبتمبر 1983- المكروه بيولوجيا من العطبراويين
؛ وما صاحب نشاطهم من روح سلمية ؛ كانت تتناقض مع العنف المستخدم ضدهم من قبل
الاخوان المسلمين وانصار السنة ؛ وموقفهم السلبى من الشيوعيين ؛ والذين كنت اكن
لهم احتراما كبيرا ؛ وجملة من المواقف والافكار ؛ والتى كانت تتناقض مع شخصيتى
حينها ؛ الا اننى ظللت اكن لهم كل احترام ؛ الامر الذى تضاعف بعد وقفة الاستاذ
الصلبة امام السفاح نميرى ؛ واكتشافاتى اللاحقة للدور الكبير الذى لعبته هذة
الشخصية فى الفكر السودانى .
الا ان هذا الاحترام والتقدير والتضامن ؛ قد كان مرتبطا بروح نقدية
عالية تجاه ما رأيته سلبيا ومفرطا فى الغيبية من اطروحات الاستاذ والجمهوريين .
وقد سطرت بعضا من ذلك فى دراسة طويلة عن الجمهوريين والفكر الجمهورى ؛ كتبتها قبيل
عدة سنوات . ورغم انى وقتها قد كنت متاثرا بالمنهج المادى التاريخى فى نمط تفكيرى
؛ الا انى لا ازال احتفظ بالكثير من الانتقادات لبعض ابجديات الفكر الجمهورى ؛
والذى اعتقد انه اذا اراد التطور والانتشار ؛ فلا بد من اعادة قرائته ونقده
وتجاوزه ؛ ضمن عملية شاملة من النقد والنقد الذاتى فى مجمل مدارس الفكر السودانى .
الا انى لا ارى فى اغلب الجمهوريين
الان من له الرغبة والقدرة فى انجاز هذا التطوير ؛ والذى بدونه فسيبقى هذا الفكر
مرتبطا بالاستاذ ؛ مقيدا بحدود تجربته الذاتية والفكرية ؛ المحدودة فى الزمان والمكان ؛ وانت
تعلمين ان اقرب الطرق لقتل فكرة هو تحنيطها وتقديسها ؛ والتعامى عن قصورها ؛ وهو
منهج اكثر ضررا من تعامل الاعداء .
من هذا المنطلق انظر الى ما كتبتيه عن منبع افكار الاستاذ ؛ حيث
عزيتها انا الى اختيار صوفى وبحث
فلسفى ؛ ورايتيها انت الهاما من عند الله . و فى الحقيقة فان هذه احد انتقاداتى
للجمهوريين ؛ وهى مدى الغيبية الطافح الذين يضفونه على شخصية وعمل الاستاذ محمود .
ان قراءة سريعة لمؤلفات الاستاذ ؛ ومحاوراته مع مدارس الفكر السلفى والليبرالى
والماركسى ؛ واراءة حول جملة من القضايا الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية
والثقافية ؛ توضح عمق الجهد الذى بذله الاستاذ فى متابعة تيارات الفكر المعاصر ؛
وفى دراستها وهضمها ونقدها ؛كما
توضح الطابع الانسانى لاجتهاداته .
اننى لا نفى هنا دور
العامل الغيبى فى تكوين شخصية الاستاذ ونظرته الى منبع افكاره ؛ فالانسان مهما كان
عبقريا الا انه محكوم بقصور شخصه وحدود تجربته ؛ ولكننى اعتقد ان ارجاع افكاره
لمجرد الهام الهى ؛ يحرمنا من تقدير جهده الفذ فى بحثه عن الحقيقة ؛ ويحوله من
انسان مفكر و فاعل ؛ الى مجرد منفعل وناقل . ان هذه النظرة فوق طابعها
المثالى والبعيد عن حيثيات الواقع ؛
تجعلنا نقف عاجزين عن اى محاولة لمقاربة افكار الاستاذ وتطويرها ونقدها ؛ فما ياتى كالهام الهى لا مجال للحوار
معه ؛ فاما ان نتقبله كله او نرفضه كله ؛ وما بين المصدقين بالهام الاستاذ ؛
والمتخرصين عليه والزاعمين بارتداده ؛ تضيع الحقيقة العلمية ؛ وتضيع شخصية الاستاذ
كانسان عظيم ؛ خط باحرف من نور سجلا فذا للفكر والمواقف ؛ ولكن كان له ما له من الهفوات
والقصور الفكرى والسياسى ؛ والذى هو من طبائع البشر والاشياء .
ان روح التقديس والاكبار هذه ؛ لهى من اعدى اعادء تطور الفكر ؛ وهى
فى الحقيقة لا تقتصر على الجمهوريين ؛ وانما تتعداهم الى مختلف مدارس الفكر
السودانى ؛ بما فيها مدرسة اليسار الماركسى ؛ والتى يفترض ان تكون ابعد ما يكون من
منطق التقديس – وهذا فى مجموعه يرجع الى انعدام الروح النقدية فى مجتمعاتنا ؛ والى
سيطرة الفكر الاسطورى على تراثنا وتاريخنا ؛ وهذا ما يفسر- جزئيا- روح التطور
المازوم الذى يعانى منه مجتمعنا ؛ والى الثبات فى الافكار والتحنط فى القديم الذى
تتصف به معظم نخبتنا واغلب جماهيرنا .
اننى فى مخطوتتى التى ذكرت عن الفكر الجمهورى ؛ قد حاولت مقاربة بعض
هذة القضايا ؛ ونزع الحجب الاسطورية عن فكر الاستاذ . الامر الذى لا ازعم النجاح
فيه ؛ ولكنها كانت خطوة اعتقد باهميتها ؛ من الناحية الاخرى ؛ فقد قمت بامر مماثل
فى مخطوطتى عن الشهيد عبد الخالق محجوب ؛ وهو شخصية اخرى فذة فى تاريخ الفكر
السودانى ؛ وحاولت فيها نزع الغيبية المادية هذه المرة ؛ والتى اضفاها عليه انصاره
. ان هاتين المخطوطتين سوف تجدان طريقهما للنشر فى القريب العاجل ؛ ولكنى اعدك
بارسالهما لك قبل نشرهما العام . من الجهة الاخرى فانا مدرك لمكامن القصور فى
شخصيتى ومعارفى وتجاربى ؛ والتى
يمكن ان تلقى بظلالها على قرائاتى هذه ؛ وفى الحقيقة فاننى فى السنتين الاخيرتين
قد غيرت الكثير من ارائى حول بعض افكار الاستاذ ؛ واعكف الان على كتابة دراسة عن
السنوات العشر الاولى من نشاط الاستاذ والحزب الجمهورى ؛ اى الفترة 1945-1955؛
باسم "اعادة اكتشاف محمود – قراءة فى الكتابات الاولى للاستاذ" .
اننى فى هذه الدراسة
القادمة ساحول مقاربة الافكار السياسية والاجتماعية للاستاذ فى هذه الفترة ؛
واحاول توضيح طابع بعضها العبقرى . من الجهة الثانية فان هذه القراءة ستحاول
متابعة التغيرات والتطور الذى حدث فى الفكر الجمهورى فيما بعد ؛ وحصر الثابت
والمتحول فى اجتهادات الاستاذ . ان معظم الجمهوريين لم ينظروا او يحللوا التغيرات
التى تمت فى اطروحات الاستاذ ؛ وخط التطور الذى حكمها ؛ وربما كان ذلك لسيطرة
الروح الغيبية على نظرتهم ؛(النظرة لهذه الاراء كالهام الهى ) وانعدام النظرة
النقدية والعلمية فى تجربتهم ؛ والتى يمكن ان تساعد فى التأريخ للفكرة من جهة ؛
ومن الجهة الثانية فى اكتشاف الجوهرى والسليم فيها ؛ استهدافا لتطويره والانطلاق
به الى افاق جديدة ."
والشكر والتقدير للاستاذ عمر القراى على مقاله والشكر موصول للذين
اعادوا نشر مقالى فاتاحوا بذلك فرصة هذا الحوار.
عادل عبد العاطى
9 اغسطس 2002