مستقبل العمل المعارض 

ما بين المبادرات الثنائية

 واخطار تمييع القضية الوطنية

 

تحليل سياسى بقلم : عادل عبد العاطى  

 

فى ذكرى انتفاضة مارس –ابريل 1985؛

استلهاما لعبرتها ؛ ولكيلا تجهض الانتفاضة القادمة .

 

مقدمة :

 

شهدت الفترة الاخيرة توقيع مجموعة من الاتفاقيات والاعلانات الثنائية التى قامت بها بعض الاطراف الفاعلة فى تنظيم المعارضة السودانية الرئيس ؛  التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ مع اطراف خارجية لا تمت اليه بصلة ؛ بل وذات عداوات مع اطراف التجمع ؛ اعنى هنا مذكرة التفاهم التى وقعتها الحركة الشعبية لتحرير السودان مع حزب الترابى (المسمى بالمؤتمر الوطنى الشعبى ) فى جنيف فى 19-فبراير 2001 ؛ ومذكرة نداء السودان والموقعة من قبل محمد عثمان الميرغنى (رئيس الحزب الاتحادى الديمقراطى ورئيس التجمع الوطنى ) و الصادق المهدى (رئيس حزب الامة ) فى القاهرة فى   مارس 2001. ان هذه الاتفاقات والتى فأجات البعض وكانها صاعقة آتية من سماء صافية ؛ لها ما لها من الاسباب الموضوعية ؛ وفيها ما فيها من الجديد فى مواقف القوى السياسية الموقعة لها ؛ ويعقبها ما يعقبها من ترتيب جديد فى الساحة السياسية السودانية .

 فى هذا المقال نحاول ان نحلل بسرعة وايجاز ؛ ظروف ومقتضيات هذه الاحلاف الجديدة والغريبة للبعض ؛ ونحاول ان نستخلص منطوقها والساكتة عنه ؛ كما نحاول ان نخرج منها باستنتاجات تساعد فى تنسيق مجهود ونضالات ورؤى  قوى المعارضة الوطنية الجذرية ؛ الباحثة عن بديل ديمقراطى مدنى ؛ تكاد ملامحه تضيع وسط سياسات الصفقات   والمناورات والتحالفات اللامبدئية ؛  التى درج عليها اقطاب النظام واجنحته؛ وتخصص فيها سدنة وقادة قوى السودان القديم .

 

تاريخ ومغزى الاتفاقات الثنائية فى السياسة السودانية :

 

الاتفاقات الثنائية كشكل لادارة الصراعات السياسية فى السودان؛ ممارسة  قديمة قدم الحياة السياسية السودانية . ان من اول هذه الاتفاقات فى عهد ما بعد الاستقلال هو اجتماع "السيدين " فى 1957 ؛ والذى كانت نتيجته الاطاحة بحكومة الوطنى الاتحادى بقيادة الازهرى ؛ وبناء حكومة السيدين بزعامة عبدالله خليل . كما من تاريخ هذه الاتفاقات لقاء بورتسودان ما بين الصادق المهدى وجعفر نميرى ؛فى العام 1977 ؛  والذى كانت نتيجته انخراط الصادق المهدى فى نظام مايو ومؤسساته فيما سمى بالمصالحة الوطنية . اما فى الفترة الديمقراطية الثالثة فيمكن ان نرصد منه لقاء الميرغنى – قرنق ؛فى العام 1988 ؛  والذى انتج ما سمى باتفاقية السلام السودانية ؛ والتى قلبت المائدة وقتها على حكومة الصادق المهدى "القومية " ؛ ووضتعها ؛ مع غيرها من الخطوات ؛ تحت  ضغوط انتهت بتغيير خطها السياسى وتكوين حكومة الجبهة الوطنية المتحدة (دون الجبهة الاسلامية ) ؛ فى مطلع سنة 1989 .

كما اننا اذا عدنا الى التاريخ القريب فنرصد لقاء الترابى والصادق فى جنيف ؛ ومن بعده لقاء الصادق والبشير فى جيبوتى ؛ والذى افرز الاتفاق الذى اطلق عليه نداء الوطن ؛ ونتج عنه انسحاب حزب الامة من صفوف التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ وعودة الصادق المهدى وقيادات حزبه الى الخرطوم . ان مؤتمر التجمع الاخير فى العام السابق قد كان فى نظر الكثيرين تدشينا لحلف ثنائى ما  بين الميرغنى وقرنق ؛ يتجاوز فى جوهره شكليات ومؤسسات التجمع ؛  الامر الذى اجمع عليه اغلب قراء الخارطة السياسية حينذاك (راجع مقالنا : مؤتمر التجمع الثانى : قديم يتجدد وجديد يتبدد)

ان هذه الاتقاقات ؛ وغض النظر عن النتائج السياسية المختلفة التى نتجت عنها ؛ الا انها يربطها قاسم مشترك اوحد ؛ وهو التحضير السرى لها ؛ واعلانها فى جو من المفأجاة لاطراف الحركة السياسية وللجماهير ؛ وحتى  دون علم القوى  المتحالفة مع اطراف هذه الاتفاقات ؛ كما فى حالة التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ والذى فؤجئت بعض اطرافه المرة بعد الاخرى ؛ باعلان اتفاقات تقوم بها بعض قياداته ؛ وتعلم بها هى من الصحف ؛ قكانت بذلك كالزوج/ة المخدوع/ة ؛ آخر من يعلم .

ان هذه السرية والاعلانات المفاجئة ؛ والتى يفخر بها بعض اطراف هذه الاتفاقات ؛ مثلهم فى ذلك مثل مخرجى افلام الاثارة الرخيصة ؛ انما تعبر عن  مسلك فى العمل السياسى خطير ؛ حيث تغلب عوامل السرية على الشفافية ؛ وسياسة الصالونات المغلقة والغامضة ؛ على المواقف  المفتوحة والمعلنة والتى يمكن التكهن بها ؛ والاطمئنان الى تطوراتها . ان هذا السلوك  يعبرفى  جوهره عن سيطرة شخصيات بمفردها على الساحة السياسية السودانية ؛ وعلى شخصنة الصراع السياسى ؛ وابعاد دور المؤسسة الحزبية والوطنية والجماهير والراى العام عن  اتخاذ القرار ؛ وقصره على بعض القيادات الابدية التى احتكرت الحديث باسم الجماهير ؛ وجعلت من كلمة الوطن والسودان ؛  والتفاهم والمصالحة ؛ عبارات مائعة لا وزن لها ؛ تبرر بها مواقفها المتناقضة ؛ووتزين بها اتفاقات تحالفاتها المتغيرة .

ان اسلوب الاتفاقات الثنائية ؛ والذى تخصص فيه قادة الاحزاب الطائفية ؛ ينسجم تماما مع انعدام المؤسسة والمراكز الديمقراطية لاتخاذ القرار ؛ فى الحزب الطائفى ؛ وانحصارها فى شخص زعيم الطائفة . ان انتقال هذه الظاهرة الى تنظيم الجبهة القومية الاسلامية ؛ والتى زعمت يوما انها تنظيم للقوى الجديدة ؛ انما يوضح الاتجاه التقليدى الذى رسى عليه هذا التنظيم تحت قيادة الترابى ؛ وكونه شكلا ومضمونا يندرج تحت قوى السودان القديم ؛ وتحوله الى طائفية جديدة ؛ تحت قيادة زعيم فرد نرجسى متقلب فى سياساته وتحالفاته ؛لا يؤلى للمبادى قيمة ؛ ولا يجعل للمؤسسة او الجماهير عليه من تاثير .  كما ان امتدادها الجديد  الى الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ يوضح ازمة المؤسسية وانعدام الشفافية وشخصنة القيادة ؛ وغيره من المظاهر التى رصدت فى مسيرة الحركة ؛ والمعتبرة احد الاطراف المهمة وسط قوى السودان الجديد .

 

الخرطة السياسةالسودانية 

عشية اتفاقات قرنق –الترابى والميرغنى – الصادق :

 

تميزت الخرطة السياسية السودانية ؛ عشية توقيع اتفاق الترابى – قرنق ؛ والصادق - الميرغنى ؛ بسيادة روح التشظى والتشرذم وسط قواها الفاعلة ؛ وسيادة حالة الاحرب واللا سلم وسط لاعبيها الاساسيين ؛ وتناقضات الخطاب والمواقف من يوم الى آخر عند نفس الطرف ؛  وذلك لعجز كل هذه الاطراف عن تجميع قواها وجذب حلفاء الى مواقعها ؛ ومن ثم فرض برنامجها السياسى على الاخرين ؛ الامر الذى يوضح انعدام الافق امام معظم لاعبى الحركة السياسية ؛ وعمق الازمة التى ادخلوا فيها البلاد ؛ والتى استعصت على الحل ؛ سلما كان ام حربا؛ انتفاضة كانت او مصالحة مزعومة .

 

فى الفقرات اللاحقة ؛ نستعرض اتجاهات وسياسات القوى الرئيسية الفاعلة فى الساحة السياسية ؛ بمحاولة لتشريحها الى مكوناتها الاولية ؛ ونتعرض فيها لقوى الاسلام الاسياسى فى السلطة وخارجها ؛ الاحزاب والقيادات الطائفية من حزبى الامة والاتحادى  الديمقراطى ؛ و قوى السودان الجديد واحزاب المعارضة الاخرى ؛ القوى الاقليمية والعالمية .

 

اتجاهات  وتوازن القوى

وسط قوى الاسلام السياسى فى السلطة وخارجها :

 

رصدا للمتغيرات والتوازنات فى جبهة النظام ؛ وعلى كامل خط قوى الاسلام السياسى ؛ فنجد ان الانقسام ما بين جناحى البشير والتلرابى  قد وصل الى مراحل ساخنة ونقاط خطيره ؛ رغم انه لم يتعد الخطوط الحمراء ؛ وهى عدم ضرب القواعد الاقتصادية للطرفين ؛ والتراجع عن فتح ملفات الفساد ؛ وغيرها من الاتفاقات التى توصل اليها الطرفان برعاية وفد الحركة الاسلامية العالمية بقيادة الزندانى والقرضاوى . كما ان الصراع رغم حدته السياسية ؛ الا انه عند اى من  الطرقين لم يصل الى مراجعة الاصول الفكرية للتنظيم ؛ او "ثوابت" الانقاذ ؛ فى عملية مراجعة او نقد لتجربة الاسلام السياسى وسقوطها المدوى فى السودان ؛ بل يبدو ان كل من الطرفين  يزايد على الاخر بالشعارات الاسلامية وباتهامات الخيانة تارة ؛ ؛ وبالكلمات الجوفاء عن الديمقراطية وتوسيع دائرة الحكم  تارة اخرى .  ان الانقسام اذن قائم على الصراع على السلطة ؛ وليس لاسباب اسديولوجية او سياسية عميقة ؛ وهو بهذا انما يقسم الاتجاه الاصولى الى تيار سلطوى وتيار معارض ؛ دون ان يمس نهجه الاساس او يراجع من برامجه المدمر .

يبدو من قراءة موازين القوى بين الطرفين ؛ ان جناح الترابى قد اجتذب حوالى ثلثى عضوية التنظيم الاصولى ؛ بما فيها اغلبية الحركة الطلابية والنسوية ؛ واحتفظ بامكانيات مادية قوية ؛ وان كان قد فشل فى مجال كوادر التنظيم العليا والوسطية ؛ والتى انحازت الى الجناح السلطوى ؛ رغما عن وجود كوادر للترابى مخقية لا تزال فى جهاز السلطة والقوات النظامية ز كما نجح جناح الترابلى فى الاحتفاظ بمواقع جيده له وسط قولت الدفاع الشعبى والدباببين والعناصر المدنية المسلحة ؛ وان كان الحال قد تغير كثيرا وسط الفئات الاخيرة بعد مذكرة التفاهم مع قرنق .

فى المقابل اعتمد جناح البشير على موارد الدولة وامكانياتها فى المقام الاول ؛ وعلى دعم جهاز الامن والجيش ؛ وعلى اجتذاب الكوادلر القيادية والوسطية العاملة فى جهاز الدولة ؛ مع العمل على تصفية القوات النظامية من انصار الترابى . ان جناح البشير ورغم التاييد العقوى الذى وجده فى البدء من الشارع السياسى السودانى غير المسيس ؛ الا انه قد فشل فى ادارة المعركة مع الترابى ؛ والذى سبب له صداعا دائما بفاعليته الفائقة ومقدراته الخطابية ؛ ويبدو ان الترابى قد اقنع قاعدة الحركة الاسلامية بانه يشكل استمرارية لها ؛ بينما خرج جناح البشير عليها ؛ الا انه قد فشل فى انجاز الانتفاضة "الاسلامية " التى عول عليها ؛ وفى تعطيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية ؛ كما وجد الصد الرقيق من قبل الصادق المهدى وحزبه ؛ وهم الذين عول عليهم للتحالف ضد البشير ؛ كما وجدت كل مغازلاته تجاه التجمع الوطنى الديمقراطى فى الداخل  الرفض القاطع .ان الترابى وبعد اكثر من عام من تفجر خلافه مع البشير ؛ قد وصل الى نتيجة بفشله هو وتنظيمه فى الاطاحة بالبشير منفردين ؛ قكان لا بد من البحث عن حليف جديد  .

من جانب آخر فان جناح البشير ورغم تماسكه الظاهرى ؛ الا انه يمور بالتناقضات والتيارات ؛ من جهة الصراع على السلطة ؛ اواختيار التكتيك السياسى . فمن جهة يبدو تيار البشير ؛ والذى يعتمد على الجيش فى المقام الاول ؛ ويمتاز بالتناقض فى خطابه ؛ وان كان يستند على السند الاعلامى والسياسى لمجموعة على عثمان محمد طه  ؛ والتى تضم نافع على النافع ؛ ومجذوب الخليفة ؛ وهى مجموعة ذات وجود قوى فى السلطة وتميل لاحتكارها وترفض دعوات المصالحة مع المعارضة " الضعيفة " ؛ وتجد سندها وسط قوات الامن وتحاول توسيعه الان وسط الدبابين والدفاع الشعبى  والمتطرفين ؛ باستخدام لغة اصولية صلبة ومزايدة باسسم الجهاد والشهداء على جناخح الترابى .من جانب اخر نجد مجموعة غازى صلاح الدين ؛ والتى تضم على محمد يس ومصطقى عثمان اسماعيل ؛ والتى ضعفت مواقعها ؛ خصوصا وانها عولت على المصالحة وجذب حزب الامة للحكومة ؛ لتقوية نفوذها الضعيف وسط القواعد والكوادر ؛ كما توجد مجموعة ابناء الغرب بقيادة مكى على بلايل وامين بنانى نيو ؛ والتى تحتفظ بوجود قوى داخل البرلمان ؛ ولا تجاهر بعدائها لجناح الترابى ؛ والذى يوجد به تمثيل مؤثر لابناء الغرب ؛ وحاول ان يلعب ورقتهم فى الكتاب الاسود الشهير .

من الجانب الاخر نجد هناك تيارات وعناصر تحسب على حركة الاسلام السياسى ؛ وهى التى حاولت ان تاخذ موقفا وسطا من الصراع ؛ وان تحاول الاصلاح ما بين جناح البشير والترابى ؛ او تحاول بناء مواقع لها فى تمايز عن التيارين .وهذه العناصر تنقسم الى تيار تقليدى وتيار يدعى الاصلاح والتجديد . وقد عبر عن التيار التقليدى  قيام ما يسمى بالحركة الاسلامية من قبل بعض مخضرمى التنظيم ؛ والذين همشهم الترابى ؛ ولا يحتاج اليهم البشير ؛ بقيادة محمد صادق الكارورى ومحمد يوسف محمد ؛ والذين فى شكل ما يسعوا الى اعادة بناء التنظيم على اسس الاخوان المسلمين القديمة ؛ فى نوستالجية واضحة وواقعية سياسية ضامرة ؛ حيث تجاوزهم الزمن وتغيرت تركيبة المجتمع والتنظيم ؛ وفى اعتقادى انهم لن يفلحوا فى جذب اتجاهات مؤثرة من قاعدة التظيم  ومن هنا فتبدو الامكانية كبيرة فى ان يتحالفوا او يندمجوا مع تنظيم الاخوان المسلمين بقيادة صادق عبد الله عبد الماجد والحبريوسف نور الدائم . كما يعبر عن تيار الشباب والداعى الى الاصلاح بقايا المجموعة التى تطلق على نفسها " حركة تصحيح المسار الاسلامى (حسم)" ؛ برعاية حسن مكى ؛ وهى مجموعة بقدر ما حاولت ان تقدم قراءة نقدية لتجربة حركة الاسلام السياسى والانقاذ ؛ الا انها لم تخط فيها خطوات جادة ؛ واكتفت بانتقادات لجوانب  تنظيمية واداريبة وسلوكية فى حياة التنظيم وفى ممارسات السلطة ؛ وان لم تذهب الى نقد الاسس الفكرية والبرامجية للحركة والانقاذ . ان هذه المجموعاات ؛ مضافا اليها جماعة انصار السنة وحزمة من التنظيمات الاخرى الصغيرة ؛ تتخذ موقفا سلبيا من قيادة الترابى ؛ الا انها تشكل سندا وداعما لمجمل حركة الاسلام السياسى ؛ سيقف الى جانبها فى اى محكات تعرض مسيرة الحركة والانقاذ الى الخطر او التدمير .

 

اتجاهات وتوازن القوى

 وسط  معسكر الاحزاب التقليدية :

 

من الجهة الاخرى فان الجناح التقليدى الطائفى من المعارضة السودانية يعانى هو الاخر من صراعات وتناقضات حادة فى داخلة ؛ وعجز عن تحقيق اهدافه الاولية ؛ وهى العودة الى السلطة وفق التقسيمة القديمة ؛ وابعاد متشددى السلطة والقوة الجديدة فى المعارضة ؛ لبناء نظام تقليدى شبه ديمقراطى ؛ يغترف من تراث دولة السودان القديم ومؤسساتها الحزبية والسياسية والشائهة ؛ ويحقق تصالحا وسطيا مه قوى الاسلام السياسى ؛ والحفاظ على التركيبة التقليدية الاجتماعية والفكرية والسياسية فى السودان ؛ بعد تنفيس اشد احتقاناتها ؛ وترميمها لتواكب مظهريا متغيرات العالم والمتغيرات داخل البلاد .

فى هذا الصدد ؛ يبدو حزب الامة الخاسر الاكبر . فهذا الحزب الذى راهن على اجراء تصالح منفرد مع السلطة بجناحيها الرئسيسن ؛ واحرق كل مركبه وجسوره مع تنظيمات المعارضة الرئيسية ؛ قد وجد الصد والاهانة والعجرفة من اهل النظام . وخصوصا وانه فقد كل وسائل الضغط الرئيسية ؛ حيث حل قواته ؛ وقلص وجوده الخارجى ؛ والكتفى فى الداخل بسياسة الصالونات والاتفاقات المنفردة مع هذا الطرف او ذاك من اطراف النظام .

وفى الحقيقة فان عودة حزب الامة فى ظروف اشتداد الصراع بين تيارى النظام ؛ قد فرضت عليه موقفا صعبا ؛ حيث حاول كل جناح من اجنحة النظام ان يستعين به ذد الاخر . وذا علمنا الشخصية المترددة للصادق المهدى ؛ وطبيعة علاقاته الاسرية ؛ وادراكه بان اغلب جهاز الدولة يقف مع البشير ؛ وعدم رغبته فى دخول مواجهات حادة مع النظام ( الامر الذى دعاه اليه صهره الترابى ) ؛ قلنا ان نعلم صعوبة موقفه فى ظل سياسات التوازنات البهلوانية التى درج عليها رئيسه ؛ ورغباته الحالمة فى بناء وحدة جامعة ؛ يكون هو مهندسها وقائدها .

ان الصادق الذى دعا الى الجهاد المدنى حتى عام 1996 ؛ ثم ذهب الى الخارج لتخريب المعارضة وتدجينها ؛ ثم القى بكل اسلحته وعاد الى الخرطوم على اكتاف اتفاقين حقيرين مع اسؤا ممثلى السياسة السودانية ؛ واكثرهم كذ1با ونقضا للعهد ؛ اعنى اتفاق جنيف مع المراوغ الترابى ؛ واعلان جيبوتى مع الدكتاتور البشير ؛ ينبغى الا يلومن الا نفسه ؛ على حالة التهميش والاحتقار التى لقاها من اطراف النظام ؛ والذين عول كل منهما على كسبه ؛ وحين عجز قائده عن الاختيار ؛ عاملوه باسؤا مما يعاملوا احزاب التوالى ؛ فمضى النظام قدما فى تنفيذ مؤتمره " الجامع " للحوار (مع نقسه )؛ رغم مقاطعة الحزب له  ؛ واقيمت الانتخابات التى رفضها حزب الامة ؛ وتواصلت حملات العنف والاعتقال ضد ناشطى المعارضة ؛ فى نقض واضح لكل ما تبجح به اقطاب حزب الصادق المهدى من اتساع الحريات الديمقراطية فى الخرطوم . يواصل النظام كل هذا ؛ لادراكه الجازم بان حزب الامة غير جاد فى معارضته ؛ ولا يسعى الى تصفيته ؛ وهو على استعداد لبيع الشعب والمبادى ؛ من اجل جزؤء من كعكة السلطة ؛ قلماذا معاملته معاملة الند والجد ؟ ان اقطاب النظام قد حللوا الوضع تحليلا صحيحا ؛ حيث رفضوا تقديم اى تنازلات لحزب الامة ؛ واكتفوا بالاحتفاظ به على هامش السياسة السودانية ؛ كحصان طروادة داخل قوى المعارضة الوطنية .

من الجهة الاخرى ؛ فان محاولات الصادق المهدى لاقامة محور سياسى بقيادتة بتجميع مجموعة من الاحزلب والشخصيات الهامشية ؛ فى جبهة مزعومة للديمقراطية والسلام ؛ قد انتهت الى الفشل الذريع .حيث فشل فى اجتذاب اى قوى جنوبية مؤثرة الى صف هذه الجبهة ؛ وخصوصا فى اجتذاب الاستاذ بونا ملوال الى الخرطوم ؛ كما فشل فى جذب اى من القوى الجديدة التى همشها التجمع الى محوره الجديد ؛ وتلقى كامل المخطط ضربتين قاسيتين ؛ حين خرج ابو القاسم حاج حمد ؛ قائد الحركة المركزية السودانية (حسم) ؛ واحد الشخصيات التى عول عليها الصادق المهدى فى بناء حلفه الجديد ؛  فى هجرة ثانية من الخرطوم ؛ وانسحب الدكتور امين مكى مدنى من حزب الامة ؛ فى اشارة بالغة على فشل قيادة الصادق المهدى فى الخروج من اسر القيادة الطائفية ؛ والانفتاح على تيارات وسطية من القوى الفكرية والسياسية السودانية . ان ما تبقى لحزب الامة فى سوق النخاسة السياسية هو الهجوم على القوى الوطنية ؛ ووتشويه سمعتها ؛ وتغذية الانقسامات فيها ؛ ودعم المجموعات والافراد الخارجين عن الخط الوطنى ؛ فى محاولة لجر الجميع الى المستنقع الآسن ؛ الذى وصلت اليه طوعا قيادة هذا الحزب .

من الجانب الاخر ؛ فان قيادة الميرغنى تواجه مشاكل جدية وخطيرة ؛ سواء داخا حزبه ؛ او فى التجمع الوطنى الديمقراطى . ان هذا الرجل الخالى من المواهب والجاذبية ؛ قد اتيحت له فرصة ذهبية ؛ بتوليه منصب رئيس التجمع الوطنى الديمقراطى لمدة عشر صنوات ؛ لاحداث تغيير حقيقى فى الخارطة السياسية ؛ وذلك بجذب القوى الليبرالية والوسطية والجديدة تحت قيادته ؛ وقد وجد التشجيع والمساندة من قبل العديد من هذه القوى . الا ان اسلوب قيادته التقليدى والابوى ؛ وضعف فاعلية حزبه ؛ وتشتت قواته بعد ابعادها عن الجبهة الاثيوبية ؛ وشدة الضغوط الخارجية عليه ؛ قد جعلت عقلية التاجر والطائفلى تطغى عليه ؛ اكثر من عقلية القائد الوطنى ورجل الدولة ؛ والتى حاول الكثيرون عبثا  اكتشافها فيه . ان الرجل يبحث الآن جاهدا فى الوصول الى تسيوية سياسية مع نظام الخرطوم ؛ وفى ذلك فقد كان لقائه مع البشير بعد هدة ايام من مؤتمر التجمع فى مصوع ؛ والمغازلات السياسية التى يمارسها اخاه احمد الميرغنى مع راس النظام ؛ وانتقاده للمعركة الناجحة التى ادارتها قوات التجمع فى كسلا ؛ كل ذلك فى خط اساسى ؛ يهدف الى اللحاق بحليفه الاستراتيجى ؛ وخصمه المؤقت ؛ الصادق المهدى ؛ وعدم تركه يستفيد من امكانيات العمل العلنى داخل السودان ؛ او امكانية التحالف المنفرد مع النظام ؛ والوصول دونه الى بعض ثمار السلطة المشتهاة .

ان قيادة الميرغنى تواجه انتقادات شديدة فى صفوف حزبه ؛ سواء من طرف القوى المتشددة تجاه النظام ؛ والتى تسعى الى بناء مؤسسة حزبية حديثة وديمقراطية ؛ والتى تتبرم من اسلوب قيادته الفردى ؛ وسيطرة الختمية على مقاليد التنظيم ؛ بقيادة على محمود حسنين ؛  او من طرف القوى المائلة الى المصالحة مع النظام ؛ بقيادة محمد الحسن عبدالله يس ؛  والتى ترى انه يضيع فرص المصالحة عبثا بوجوده فى الخارج ؛ او التزامه بالتجمع . ان الصراع مع المجموعة الاولى ؛ قد تفجر فى التغييرات التى طرات على قيادة الداخل ؛ والانقلاب الختمى الذى تم داخلها . الا ان الصراع ما لبث ان اخمد بالمصالحة والاجاويد والتزلات المتبادلة  الى حين  ؛ وان كانت جذوره  لا زال كامنة فى جسم الحزب ؛ وخصوصا بعد بروز قيادات جديدة ؛ مثل محمد اسماعيل الازهرى ؛ والذى يمكن ان يوحد القوى المطالبة بالتغيير ؛ ويقدم لها القيادة المفقودة ؛ التى يمكن ان تهدد سلطة الميرغنى فى الحزب ؛ او تقلصها على الاقل . اما الاتجاه الثانى ؛ والذى عبر عن نفسه لزمن مضى ؛ فى تاسيس الحركة من اجل المؤسسية فى الحزب الاتحادى الديمقراطى ؛ قيبدو انه يحقق نجاحات فى دفع قيادة الميرغنى ؛ فى اتجاه فك ارتباطها مع احزاب التجمع ؛ والتوحيد مع مجموعة الشريف الهندى ؛ والتى قطعت خطوات واسعة فى اطار الانبطاح امام الجبهة الاسلامية ؛ والانخراط فى مؤسسات النظام . ان الميرغنى ؛ والذى لا يملك برنامجا سياسيا خاصا به ؛ خارج برنامج استعادة ممتلكاته ؛ والرجوع الى السلطة ؛ قد تبنى لفترة طويلة دور الاب الروحى لقوى التجمع المسماة بالصغيرة ؛ والتى تطلق على نفسها اسم القوى الجديدة  ؛ مقابل الدعم الذى قدمته لقيادته ؛ وتقديمها للغطاء الفكرى والسياسى والدعائى لسياساته وشخصه ؛ وخصوصا من طرف  الحزب الشيوعى ؛ الامر الذى وجد الكثير من الانتقاد من الاطراف التقليدية والتصالحية فى الحزب والطائقة . الا ان هذا الدعم المتبادل لم يوقف الميرغنى عن لعب سياسته التقليدية والخاصة ؛ كزعيم للاتحادى الديمقراطى ؛ وخصوصا وسط الاطراف الاقايمية والعالمية ؛ ؛ والتى ليس لقوى الجديد من مدخل اليها ؛ اعنى هنا الدولئر الاقليمية فى القاهرة والرياض ؛ واخيرا طرابلس ؛ الامر الذى وفر له هامشا معقولا للمناورة ؛ فى داخل حزبه ؛ او فى اطار التجمع .

ان الميرغنى ؛ والذى يبدو فى حالة منافسة دائمة مع حليفه وغريمه الصادق المهدى ؛ قد فهم دور القائد الوطنى ورجل الدولة ؛ الذى زينه له البعض ؛ بصورة خاطئة ؛ وهى شخصنة القيادة والسياسات ؛ سواء فى اطار الحزب اوالطائفة ؛ او فى اطار التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ الامر الذى جعله وكانه يقف فوق التجمع ؛ وليس كانه طرفا فيه . ان شخصنة المؤسسات قد تبدت فى السنتين الاخيرتين فى شكل تحالف شخصى بين الميرغنى وقرنق ؛ الامر الذى  وجد تعزيزه فى مؤتمر التجمع الاخير فى مصوع . ان هذا التحالف ؛ والذى اتى كتكرار وتطوير لاتفاق الميرغنى – قرنق فى العام 1988 ؛ قد كان محسوبا من قبل الميرغنى لتحقيق الاهداف التالية  :

اننا اذا علمنا كل هذا ؛ وحجم الضغوط الداخلية والخارجية التى يتعرض لها الميرغنى ؛ من قبل المتمردين فى حزبه ؛ والتقليديين فى طائفته ؛ والداعيين الى المصالحة من قبل اسرته ومعسكره ؛ ومن القوى الاقليمية والعالمية الفاعلة ؛ واذا علمنا بحجم المخاطرات التى اقدم عليها بحلفه المزعوم مع قرنق ؛ قلنا انت نتصور حجم الصدمة التى تعرض لها ؛ حينما وقع حليفه وصديقه الجديد ؛ اتفاقا مع عراب النظام  ومهندسه الاول ؛ واحد الد اعداء الاتحادى فى الساحة الوطنية ؛ الدكتور حسن الترابى ؛ فى جنيف من وراء ظهر الميرغنى وحزبه وتجمعه .

 

الوضع وسط قوى السودان الجديد

 داخل وخارج صفوف التجمع الوطنى الديمقراطى :

 

من الجهة الاخرى ؛ فان معسكر القوى التى اصطلح على تسميتها بالقوى الجديدة ؛ يعانى هو الآخر من ازمة عميقة تمسك بتلابيبه ؛ وتعطل من تبلوره ؛ وتحرم الجماهير من الامل فى بزوغ بديل جديد ؛ يقدم لها خيارا يخرجها من نار الاسلامويين ؛ ورمضاء الطائفيين .

ان كاتب هذا المقال قد اشار فى اكثر من مرة الى حجم الازمة التى تعانى منها قوى الجديد ؛ وقد تكون مقالات الدكتور حيدر ابراهيم على الاخيرة ؛ اضافة جديدة تلفت النظر الى حجم ازمة هذه القوى ؛ وتستثير نقاشا وعملا شعبيا وقاعديا ؛ يؤدى الى تنشيط اطرافها ؛ واستنهاض الامكانيات المخفية وسطها ؛ ويؤدى فى المحصلة الى توحيدها وتقعيلها ؛ والتقاطها لزمام المبادرة فى الحياة السياسية والفكرية السودانية .(راجع فى ذلك مقالنا : دعوة السودان الجديد بين نضالات الجماهير وعجز القيادات )

ان اول علائم الازمة وسط هذه القوى هو تبعثرها وتشظيها ؛ ما بين عشرات التنظيمات الحزبية والعسكرية والجماهيرية والنقابية ؛ الامر الذى يقلل من فعاليتها ؛ ويحرم الجماهير من رؤيتها كجسم وطنى متماسك وموحد ؛ وقادر على المنافسة . ان حصر بسيط وغير كامل لتنظيمات هذه القوى ؛ يجعلها فوق العشرين ؛ نذكر منها فى داخل التجمع  ( الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ التحالف الوطنى السودانى / قوات التحالف السودانية ؛ التحالف الفيدرالى الديمقراطى السودانى ؛ مؤتمر البجة ؛ تنظيم الاسود الحرة ؛ الحزب الشيوعى السودانى ؛ حزب البعث ( القطر السودانى ) ؛ حزب البعث ( منظمة السودان) ؛ الحزب القومى السودانى ؛ اتحاد الاحزاب الافريقية السودانية (اليوساب)  وفى خارج التجمع او على اطرافه  ( حركة القوى الديمقراطية الجديدة (حق) ؛ جبهة القوى الديمقراطية (جاد) والتى تشمل اربع احزاب! ؛ اتحاد القوى الوطنية الديمقراطية ؛ الحزب الشيوعى – القيادة الثورية ؛ جبهة نهضة دارفور ؛ حزب المؤتمر الوطنى (حزب  المرحوم عبد المجيد امام وليس حزب السلطة ) ؛ المؤتمر الوطنى الافريقى ؛ اتحاد عام جبال النوبة ؛ الحزب الناصرى ؛ المنبر الديمقراطى ؛ الخ الخ ) هذا عدا عن العديد من الانشقلقات فى هذه االاطراف ؛ والمنظمات الشبابية والطلابية والنسوية المرتبطة بها ؛ والتنظيمات العسكرية المعارضة  المختلفة ؛ والحركة النقابية الديمقراطية .

 ان ابلغ الدليل على فشل استراتيجية التشظى والتمترس بالحدود الحزبية الضيقة ؛ هو شيوع مصطلح الاحزاب الصغيرة فى وصف هذه القوى ؛ والمحاولات الجارية الاخيرة لتجاوز هذه القوى ؛ فى اشارة واضحة من قبل اللاعبين المحليين والاقليميين بتجاهلهم لوجود هذه الاطراف  ؛ وعدم قناعتهم بقدرتها على التاثير ( الاقتراح بعقد مؤتمر تحضره السلطة والحزبين الطائفيين والحركة الشعبية وربما .. حزب الترابى )

اما المظهر الثانى للازمة فيتبدى فى عجز هذه القوى حتى الان عن تقديم البديل الفكرى والسياسى المتكامل عن دولة الجبهة الاسلامية الفاشية ؛ والذى هو متميز فى ذات الوقت عن دولة السودان القديم بعد الاستعمارية ؛ والتى تتماهى فى وعى الجماهير مع الحكم الطائفى والتاخر الاقتصادى والركود اللثقافى والهيمنة العرقية والدينية لسلطة الوسط وايديولوجيتها المحافظة . ان شعار السودان الجديد الذى طرحته هذه القوى لم يتحول الى مجموعة برامج عملية وتفصيلية ممكنة التنفيذ ؛ وقادرة على اشباع تطلعات الجماهير واقناع القوى الاجتماعية التى يتوجه اليه\ا خطاب القوى الجديدة . ان هذه القوى قد قنعت ببرامج الحد الادنى وبالشعارات العامة ؛ وها ان شعهارها الرئيس ؛ السودان الجديد ؛ قد اصبح مطية لاى راكب ؛ ومضت تبتذله من جهة الاحزاب الطائفية مرة ؛ واطراف النظام والحركة الاسلاموية مرات .

كما ان المظهر الثالث لللازمة يتبدى فى عجز هذه القوى عن تفعيل القطاعات الوطنية الواسعة من المثقفين السودانيين ؛ والذين يشكلون رصيدا طبيعيا لها ؛ وذلك بسبب طبيعتها الحلقية الضيقة ؛ وعجزها عن بناء المنبر القادر على استيعاب القوى غير المؤطرة حزبيا ؛ وفى عجزها عن جذب جماهير الشباب والنساء الى مواقعها بصورة حاسمة ؛ واهمالها الذى يشابه اهمال القوى الطائفية لجماهير المغتربين السودانيين ذوى الاتجاه الوطنى الغالب ؛ كما ان اطرافها القائمة على اسس قومية او جهوية ( مؤتمر البجة ؛ الحزب القومى السودانى ؛ الخ )  ؛ لم تفلح بعد تماما فى جذب جماهير قومياتها ومناطقها الى مواقع السودان الجديد ؛ وعزل او اضعاف القوى الطائفية فى تلك المناطق ووسط تلك القوميات .

 

كما ان المظهر الرابع للازمة يتبدى فى تناقض الخطاب السياسى لمعظم هذه القوى ؛ مع شعاراتها وبرامجها المعلنة . ان المثال الاكبر تقدمه هنا الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ والتى طوعت وطوت  شعار السودان الجديد ؛ خلال العشر سنوات الماضية ؛  من اجل حلف استراتيجى مع القوى الطائفية ؛ ومضت الى حدود التناقض المطلق عندما وقعت اتفاقها الاخير مع الترابى ؛ التعبير الكامل عن اييولوجية وممارسات السودجان القديم فى اكثر صورها فاشية وعنفا وتطرفا . ان قوى الجديد الاخرى لا تقل فى تناقضاتها ؛ وانبطاحها امام القوى الطائفية عن الحركة الشعبيبة ( والتى ربما تتعامل من موقف اقوى ) ؛ وفى ذلك فقد بذ الجميع الحزب الشيوعى السودانى ؛ والذى وضع كل امكانياته الفكرية والسياسية فى خدمة تحالف تهيمن عليه وترمز له القوى الطائفية ؛ كما ترفض قيادته بصورة قاطعة اى دعوات لاعادة رسم الخريطة السياسية ببناء بديل جديد . ان القوى الجديدة الاخرى ؛ قد استمرأت هذا الامر ؛ وسلكت فى ذلك الدرب ؛  سواء تلك الموجودة داخل التجمع ( التحالف ؛ الفيدرالى ؛ البجة ) ؛ او الموجودة خارجه ( جاد) ؛ بينما ذهبت بعض القيادات التى حسبت يوما فى صف الجديد ؛ الى التحالف مع نخاس السياسية السودانية الاول ؛ الصادق المهدى ؛ ومغازلة ما اسمته بالحركة الاسلامية ( مجموعة الحاج وراق ؛ الخ )

ان مظاهر الازمة لا تكشف لنا النقاب عن اسبابها ؛ والتى مهما حاول البعض ايجاد جذور موضوعيبة لها ؛ من ضعف القوى الاجتماعية الجديدة فى السودان ( الذى نرى عكسه ) ؛ او فى واقع ضعف الامكانيات المادية ( والذى نراه تبريرا ضعيفا) ؛ او فى تاريخ تطور الحركة السياسية السودانية ( الخلافات الاييولوجية بين بعض اطراف هذه القوى ؛ قيام اغلبها ونشاطه فى ظل الديكتاتورية ) ؛ او فى ضرورة التصدى المشترك فى جبهة وطنية واسعة للنظام الحالى ( الحلم الذى توضح خطله كل يوم سياسات القيادات الطائفية؛ ومؤامراتها واتفاقاتها  الثنائية ؛ العلنية منها والسرية  ؛ والتى توضح ان هذه القوى لا ترعى عهدا ؛ لا تحترم جبهة ؛ ولا تقدر وطنا )  ؛ فاننا نرى خلافها ؛ ونؤمن بان كل تبرير سبق عاجز عن تحديد مكمن الداء ؛ وبالتالى سيعجز عن تقديم الدواء  .

اننا نرى الازمة كامنة فى القيادات ؛ وعجزها عن رؤية الاستراتيجى والمستقبلى ؛ وغرقها فى التكتيكى والمرحلى ؛ وتفضيلها لان تلتحق بنادى السياسة التقليدية ؛ عن ان تبنى خطاب وممارسات جديدة ؛ فى ممارسة اصعب ؛ ولكنها اكثر جدوى . كما نراها فى تضخم الذات فى هذه القيادات ؛ والتى تفضل ان تظل قيادات اولى فى تنظيماتها الصفيرة ؛ عن ان تصبح احدى القيادات العديدة  فى تنظيم وطنى كبير . ان النرجسية وانعدام الخيال السياسى وفقدان الرؤية الاسترتيجية لا تكفى وحدها هنا لتفسير هذا الحال الغريب من التشظى والانبطاح والتناقض ؛ ويغدو هنا السؤال الذى طرحه البعض مشروعا: ما هو ومن هو الجديد وسط هذه القوى ؛ وهل ان بعضها لا يعدو ان يكون صورة اخرى عن السودان القديم ؛ وهل لم تتحول بعض اطرافها الى قيادات تقليدية هى الاخرى ؛ وما هو معيار الجديد اذن اذا لم ينعكس فى الخطاب والممارسة ؟

ان مقال الدكتور حيدر ابراهيم قد وضع تحليلاتنا النظرية  فى اطارها العمى ؛ فالحركة الشعبية رغم وضعها العسكرى الجيد ؛ الا انها تواجه بانتقادات حادة ؛ فيما يتعلق بسياساتها واستراتيجتها ؛ او طابع تحالفاتها المتقلبة ؛ او اسلوب القيادة فيها ؛ او مسؤولياتها  فيما يتعلق بتعاملها مع جماهير المناطق الحررة  . ان معظم هذه الانتقادات الصحيحة ؛ تاتى للاسف من قبل الاطراف التى تعول على الانفصال ( الاستاذ بونا ملوال ومجموعته ) فى مقابل الصمت المطلق والارتهان الكامل لمغامرات الحركة من قبل القوى الجديدة وممثليها . اما الحزب الشيوعى فلا يزال يعيش ازمته التى لا تزال تناقش منذ عشر سنوات ؛ ويبدو الامل ضعيفا فى تجديده او تغييره بما يستوعب تحولات الواقع ؛ وبما يعيده الى مواقع بناء البديل ؛ ويخرجه عن دور الحليف الصغير والداعم الدائم ؛ لهذا الطرف الطائفى او ذاك ؛ اما قوات التحالف السودانية فيبدو انها تعيش ازمة الطفل الذى شب قبل الاوان ؛ وتحتاج الى حلول عاجلة وجذرية  ؛ لكل الثغرات والنواقص الكامنة فى بنيتها الفكرية اطرها التظيمية والقيادية ؛ وتوجهاتها السياسية وقدرتها على تفعيل نشاطها السياسى وتشغيل برامجها الجديدة والطموحة ؛ كما ان استراتيجتها وتكتيكاتها فى العمل المسلح تحتاج الى اعادة ترتيب ؛ وفق المتغيرات الوطنية والاقليمية . اما التحالف الفيدرالى  فقد رفض او عجز عن نقل نشاطه الى المواقع المفترض وجود نفوذ له وسطها ( كردفان ودارفور ) ؛ وتحتاج ليبراليه زعيمه الزائدة  - فى اختيار تكتيكاته او فى التعامل مع مختلف القوى – الى ضبط لها بما يتلاءم مع البرنامج المطروح  ؛  بينما على مؤتمر البجة توطيد بنيته التنظيمية ؛ ويظل على جاد ان تقطع خطوط مغازلتها مع الخطاب الاسلاموى ؛ وان تنخرط بجدية فى بناء وحدة قوى الجديد فى الداخل ؛ ويغدو على حق ان تخرج من عزلتها ؛ وان تنفتح على الاخرين بما يتجاوز المرارات القديمة والجديدة؛ كما على الجميع ادراك الكارثة ؛ والخروج من الوهم ؛ ونبذ الرضا عن الذات ؛  وادراك الازمة التى يعيشونها ؛ كخطوة اولى فى اتجاه التغيير  .

فى مثل هذه الحالة ؛ فليس غريبا ان تتناءى الحركة الشعبية عن شعاراتها وبرامجها المعلنة ؛ وان تفضل التحالف مع " الكبار" ؛ سواء كانوا من القيادات الطائفية ؛ او مؤتمر "الدكتور" الفاشى ؛ عن ان تتحالف مع الصغار ؛ خصوصا اذا ما كانوا فاقدى الثقة فى قدراتهم ؛ وعلى هذا الحال من التشظى ؛ والمشاكل الداخلية ؛ والانبطاحية ( تجاهها وتجاه القوى التقليدية )  . وان تسعى الى بناء جبهة مع الاحزاب الجماهيرية الكبرى ؛   " على حد تعبير ياسر عرمان " ؛ فى خطوة تؤدى ؛ فى حدها الاقصى ؛ الى ترميم المتهدم ؛  وتجميل القبيح ؛ من بنية ووجه السودان القديم ؛ عن ان تضع يدها فى يد القوى الجديدة الاخرى ؛ وان تشارك فى بناء تحالف جديد ؛ يعيد ترتيب الخارطة السياسية ؛ ويؤدى فى المحصلة الى السير فى طريق بناء السودان الجديد .

 

المتغيرات والاتجاهات الاساسية

على صعيد القوى الاقليمية والعالمية :

 

حالة توازن الضعف التى تسود نعظم الاطراف المحلية السودانية ؛  جعلت للمتغيرات الاقليمية والعالمية اتجاها جديدا ؛ وهو الاتجاه بالدفع نحو نوع من المصالحة  من بعض الاطراف ؛ او الدفع نحو نوع من انواع الحل الجزئى( الانفصالى فى المحصلة )؛ كما يتبدى فى بعض المبادرات .

فمن جهة القوى الاقليمية فلا تزال حالة الحرب الاريترية –الاثيوبية تلقى بظلالها السلبية على مجمل نشاط المعارضة السودانية ؛ فحينما اقتربت مواقف النظام الاثيوبى من مواقع النظام فى الخرطوم ؛ فان اريتريا والتى تتعرض الى ضغوط جبارة عسكرية وسياسية ؛ قد فضلت ان تنتقل من مواقع اسناد المعارضة ودعمها ؛ الى مواقع الوسيط بين الحكومة والمعارضة . ورغما عن ان التوترات لا تزال مستمرة على خط الخرطوم – اسمرا ؛ فان الدعم الاريترى للمعارضة قد تضاءل كثيرا ؛ وخصوصا فى ظل عدم قدرتها على تحقيق انتصارات كبيرة وحاسمة على جبهة الشرق على الاقل ؛ وحالة التفتت والتشظى التى تعانى منها قواها الاساسية .

على جبهة اخرى ؛ فان يوغندا تبدو مشغولة بقضاباها الداخلية ؛ ومستعدة للمفاوضة مع نظام الخرطوم ؛ او التعادم معه على الاقل ؛  فى خطوة لايقاف الحرب الاهلية فى شمالها ؛ وخصوصا بعد انكسار حلفها الاستراتيجى مع رواندا ؛ وعحوله الى حالة حرب وعداء ؛  وفشل حلفاءها فى الكونغو ؛ والهجمات التى تتعرض لها فى الجنوب من ميلشيات الهوتو المنطلقين من الكنغو ورواندا وبوروندى .  فى هذا الصدد فليس من المستغرب القرار الذى اصدره البرلمان اليوغندى ؛ مطالبا فيه حكومته بوقف دعمها للمعارضة السودانية ؛ وخصوصا الجيش الشعبى لتحرير السودان .

الانظمة العربية من جانبها ؛ تبدو مستعدة لدفع المعارضة والنظام نحو نوع من انواع المصالحة ؛ خصوصا بعد ابعاد الترابى عن الحكم ؛ وهو البعبع الذى كان يصور لها وكانه صقر النظام ؛  وضمانا لتوحيد الشمال ؛ وخوفا من انتصار مطلب  حق تقرير المصير او الانفصال فى الجنوب ؛ وتجنبا لاجراء اصلاحات ديمقراطية واجتماعية عميقة فى السودان ؛ تغير من بنيته وتوجهاته الاساسية  . ان جهود السعودية ومصر والجزائر تصب فى هذ الصدد ؛ بدعم صامت من دول الخليج . اما القيادة اليبية ؛ فانها فى اطار توجهها الافريقى الجديد ؛ تبدو مصرة على لعب دور توفيقى فى السودان ؛ يسجل تحقيق مصالحة فيه نصرا دبلوماسي "جديدا " ؛ لتوجهات العقيد الافريقية الجديدة .

اما على صعيد الدول الاوربية الغربية ؛ والتى كانت تشكل محورا داعما لجهود الايقاد ؛ وشكلت من بين بعضها منبر شركاء الايقاد ؛ وكانت الممول الاساسى لحلقات الحوار ؛ فانها تبدو متبرمة بانعدام النتائج فى هذا المسلسل الطويل . ويبدو السؤال الذى تطرحه بعض دوائرها مشروعا :   الى متى سيستمر دافع الضرائب الاوروبى فى تحمل نفقات محاورات ومؤتمرات ؛ لم تحقق تقدما ولو خطوة للامام ؛ خلال اكثر من ثمانية سنوات . كما ان العديد من الحكومات الاوربية يسيل لعابها غزيرا ؛ وراء امكانيات التعاون الاقتصادى مع نظام الخرطوم ؛ فى مجال الاستثمارات المتعلقة بالنقط او غيره . وتبدو لذلك مهتمة بامكانيات المصالحة ؛ ومستعدة لتقبل الدعاوى المزيفة بتوسيع الحريات الديمقراطية فى السودان ؛ وتقيل شرعية النظام  . ان بعض هذه الدول ؛ فى اطار سياسة تقليص الهجرة الاجنبية ؛ مستعدة لتمرير كل الاكاذيب ؛ اذا كانت تشكل له مبررا لها ؛ لرفض طلبات اللجوء السياسى السودانية ؛ والتى وصلت الى حدود المبالغة والعبث فى بعض من تلك البلدان ( حيث حصل على اللجوء السياسى لاجئين اقتصاديين ؛ ومواطنى دول لا علاقة لها بالسودان ؛ انتحلوا اسم السودان ؛  وافراد من مؤيدى النظام ؛ وبالغت المعارضة فى اعطاء دعمها لمن يستحق ومن لا يستحق من طالبى اللجوء فى اوروبا ).

الولايات المتحدة من جهتها ؛ تبدو متناقضة فى تعاملها مع القضية السودانية . فمن جهة نجد عناصر متشددة تجاه نظام الخرطوم فى الادارة الجديدة ؛ وكذلك فى الكونغرس ؛ سواء من بين الديمقراطيين او الجمهوريين ؛ الا اننا نجد اتجاها آخر يسعى الى اصلاح العلاقات مع نظام البشير ؛ وفى ذلك ياتى قرار الكونغرس بانهاء حظر التعامل الاقتصادى على الشركات الامريكية مع النظام . ان الجانب الاول تدفعه عوامل ايديولوجية وسياسية فى اطار الخطاب السياسى الامريكى؛ وشعاراته حول حقوق الانسان والديمقراطية  ؛ بينما يقف وراء الثانى العامل الاقتصادى ؛ والخوف من اذدياد النفوذ الاوروبى والصينى فى هذه البقعة من افريفيا ؛ وحالة خيبة الامل الناتجة من ضعف المعارضة السودانية ( الذى عبرت عنه مادلين اولبرايت ؛ سكرتيرة الدولة فى ادارة كلينتون السابقة فى زيارتها لافريفيا ) ؛ وسياسة الحروب المتبادلة والمغامرات الطائشة التى يمارسها حلفاء امريكا المفترضين  فى المنطقة ( اثيوبيا –اريتريا و يوغندا –رواندا ) .

من جانب آخر ؛ فيبدو ان اللوبى الجنوبى فى الولايات المتحدة ؛ بدعم عناصر مختلفة من المنظمات المعارضة للرق وممارسات العبودية ؛ ومختلف المنظمات الكنسية والمسيحية ؛ يدفع فى اتجاه حل المشكلة السودانية فى اتجاه جزئى  ؛ وذلك بتصويرها كمشكلة شمال – جنوب . ان هذا الاتجاه والذى ظهر فى ورقة مركز الدراسات الاستراتيجية الاخير ؛ يبدو مرشحا للانتصار وسط الادارة الامريكية ؛ وخصوصا فى ظل التخبط الذى تعيشه المعارضة السودانية ؛ والتسطيح الاعلامى لقضايا السودان فى الصحافة الغربية ؛  وانعدام الخط الواضح والمعلن فى سياسات الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ والجهد السياسى والدعائى الخارق للعادة ؛ والذى يمارسه اللوبى الانفصالى من الساسة الجنوبيين فى الدوائر الاوروبية والامريكية ؛ بقيادة زعيمه الجديد ؛ الاستاذ بونا ملوال .

 

اتفاق الترابى – قرنق

قراءة فى الاسباب والمضمون والنتائج :

 

على هدى الخلفية السابقة ؛ يمكن قراءة مدلولات اتفاقية الترابى قرنق ؛ المسماة بمذكرة التفاهم ؛ كونها هربا الى الامام ؛ ومحاولة لتجاوز ازمة كل منهما ؛ عن طريق قلب الطاولة على كل الاطراف ؛ عسى ان تنتج الفوضى جديدا  .

فجون قرنق من جانبه ؛ وبعد تحالف مع اقطاب المعارضة التقليدية ؛ من حزب الامة اولا والاتحادى الديمقراطى ثانيا ؛ لم يتجاوز المربع الاول ؛ فى انتصارات طاغية على جبهة العمل العسكرى ؛ او جديد يذكر على ساحة السياسة السودانية . و لا تزال المعارضة الشمالية بعد عقد من الزمان ؛ تعاقر ازمتها ؛ الامر الذى يمكن ان يؤدى لنفاد صبر اكبر المثابرين ؛ ناهيك عن عقيد يقود حركة عسكرية ؛ ويطمح فى ان يرى النتائج اليوم وليس غدا . وفى حالة الشتات وانعدام الاتجاة والارادة التى يعانى منها التجمع الوطنى ؛ فقد عن لقرنق ان يبحث عن طرف جديد ذو قوة وشوكة ؛ يمكن ان يكسر الركود ؛ ويضمن لة امكانية حدوث تغيير ما فى الخرطوم ؛ ومن افضل من الترابى مرشحا لمثل هذا الحلف الجديد ؟

وفى الحقيقة فان تاريخ العقيد قرنق فى التحالفات مع بعض الاطراف القوية فى الساحة الشمالية؛ ضد بعضها الاخر ؛ ثابت و قديم . فقد وقع اتفاقية السلام السودانية مع الميرغنى فى العام 1988 ؛ فى مواجهة حكومة الصادق المهدى ؛ ثم وقع اتفاقا ثنائيا مع حزب الامة فى العام 1990 ؛ ضد نظام البشير ؛ وكان هذا الاتفاق مدخله لولوج صفوف التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ ثم ناهض حزب الامة ورمى بثقله مع حلف جديد مع الميرغنى ؛ ضد حزب الامة والنظام معا ؛ وها هو الان يتحالف مع الترابى ؛ ضد جناح الجبهة الحاكم ؛ وبصورة غير مباشرة ؛ ضد حلفاؤه القدامى من اعضاء التجمع الوطنى والقيادات الطائفية .

ان تحالفات قرنق هذه ؛ ومع تحقيقها لنتائج تكتيكية مؤقتة ؛ من فتح المجال له وسط بعض الاطراف الاقليمية العربية ؛ وكسر بعض الحواجز فى صورته امام العقلية الشمالية ؛ الا انها تواجه بالفشل وانعدام اى نتائج على المستوى الاستراتيجى ؛ وهى من الجهة الاخرى تهدم من اساس مصداقيته عند طرفين مهمين فى اللعبة السياسية ؛ وهما القوى الجنوبية والجماهير الجنوبية التى لا تثق فى الاحركة السياسية الشمالية عموما ؛ و القوى التقليدية خصوصا ؛ والقوى الجديدة فى الشمال والتى كانت تنظر الى الحركة الشعبية كحليف طبيعى فى معركتها من اجل سودان جديد ؛ والتى تصدمها تحالفات قرنق مع الاطراف المسئولة عن الازمة السودانية ؛ من القادة الطائفيين بالامس ومؤسس ومهندس النظام اليوم . ان قرنق بتغييبه للبرامجى على المرحلى ؛ والتكتيكى على الاستراتجى ؛ قد ذهب فى ميكافيليته ومذهبة النفعى الى حدوده القصوى ؛ عندما وقع اتفاقا للتفاهم مع الرجل المسئول عن كل مآسى السودان فى العقد الاخير ؛ والملطخة يداه بدماء عشرات الالاف من الجماهير الجنوبية البريئة .

الترابى من جانبه ؛ لم يخف يوما نفعيته واساليبه الانتهازية واللامبدئية فى العمل السياسى ؛ وفى سبيل ذلك لم يتورع عن نحت وتطبيق مصطلحة الشهير عن فقة الضرورة ؛ والذى يعرفه البعض فى صورته الاوضح ؛ وهى ان الغاية تبرر الوسيلة . الا ان الغاية عند الترابى هى السلطة ولا شى غيرها . ان الرجل الذى تحالف مع النميرى وانكسر تحته ؛ وخلق البشير ودخل السجن بقرار من نفسه ؛ لا يستغرب ان يدخل فى حلف اليوم مع جون قرنق ؛ وان يتبادل الحوار ويدعو الى التنسيق مع الحزب الشيوعى . ان فشل الترابى فى تحطيم الآلة الحكومية التى خلقها بنفسه ؛ والنظام الذى اقامه بساعدية ؛ من اجل اشباع نرجسيته المتاصلة ؛ وطموحه الطاغى الى السلطة والظهور ؛ سيقوده حتما الى التحالف مع الشيطان نفسه ؛ وفى ذلك لا جديد ؛ لمن يدرك طباع هذه الشخصية المخاتلة والمغامرة ؛ وتضخم الذات فى هذا التكوين المليئ بالعقد والتناقضات .

استنادا على السابق ؛ فليس من المستغرب ان تاتى مذكرة التفاهم ممعنة فى العمومية ؛ خالية من اى قراءة نقدية للتجربة السياسية السودانية ؛ وان تركز على البديهيات ؛ من الاشارة الى التعدد الثقافى والدينى والعرقى فى السودانى ؛ والعموميات ؛ من شكل اقامة الدولة على اساس المواطنة . كما يظهر قصر التحليل السياسى ؛ فى ربط احادية النظام بقرارات الرابع من رمضان ؛ واخلاء جناح الترابى من مسؤليته السياسية والجنائية عن كل ما تم قبل الرابع من رمضان . ان البند ذو المعنى الوحيد هو ذاك الذى يتحدث عن توحيد الجهود فى معارضة النظام ؛ وهنا تنازل من الحركة الشعبية حينما وافقت على صيغة المعارضة السلمية ؛ بدلا ان تقر المعارضة بكل الوسائل ؛ وهى ما هى من كونها تنظيم عسكرى فى المقام الاول . ان اتفاق التفاهم والذى صور كجبل من الناحية السياسية ؛ لم يتجاوز كونه فارا من الناحية الفكرية  والعملية .

ان مختلف دفاعات قادة الحركة الشعبية عن مذكرة التفاهم ؛ بما فيها لقاءات ياسر عرمان ومنصور خالد الصحفية ؛ لا تعدو كونها لعبا على الذقون ؛ فى تصويرها للاتفاق كمدخل للسلام ؛ وفى بحثها عن تغييرات فعلية فى فكر ومواقف الترابى ؛ الامر الذى لا يجد اسناده حتى قى نصوص المذكرة اياها . انها اذن فى المقام الاول ؛ دفاع هزيل عن لا مبدئية الحركة الشعبية ؛ وتطوير لمختلف الحيل التى تسوقها الحركة الشعبية لتبرير مواقفها المتناقضة ؛ وانعدام المبدئية فى قرارتها ؛ والطابع العشوائى والمرحلى لتحالفاتها وتكتيكاتها .

من الجهة الاخرى ؛ فان انصار الترابى ؛ والترابى شخصيا ؛ يبدون تمسكا مرضيا بالمذكرة المذكورة . وفى ذلك يجب الا يلاموا ؛ فهم يتمسكوا بها طالما حققت اهدافها الآنية ؛ وسيرموها كالنواة حالما تتغير الحالة السياسية . ان الترابى بعد فشل انتفاضتة الاسلامية ؛ قد سعى لاستفزاز البشير وجناحة ؛ آملا فى تصعيد الصراع . وقد كان . ان اعتقال الترابى الجديد يقدم له تبييضا لوجهه امام اى انتفاضة قادمة ؛ فى نقس الوقت الذى لم يتنازل فيه عن برنامجه الاسلاموى . الا ان الترابى فى نفعيته هذه قد تجاوز الخطوط ؛ حينما غامر بكل ما ظل يردده عن قرنق ؛ وكل ميراث حركته " الجهادى " من اجل حلف لن يعمر فوق خريف واحد .

 ان الترابى طول  العام الاخيرقد كان يستخدم مجموعة من الخطابات المتناقضة لاكتساب الدعم فى صراعه مع البشير ؛ اعتمادا على طبيعة الجمهور المخاطب ؛ والخطابات هى :

·        خطاب اسلامى متطرف ؛ يعتمد على خيانة البشير للمبادى ؛ وانكساره امام الضغوط العالمية والاقليمية ؛ وهذا الخطاب كان موجها لكوادر وقاعدة الحركة الاصولية ؛ وبدرجة للحركة الاصولية العالمية  .

·        خطاب اصلاحى يركز على قضايا الفساد فى الحكومة ؛ وعلى توسيع الحريات الديمقراطية ؛ وهو خطاب موجه الى الجماهير الشعبية من غير قاعدة الحكم ومؤيديه ؛ والى اطراف المعارضة .

·        خطاب موجه الى الخارج الاقليمى والعالمى ؛ بركز فيه على البحث عن المساومة ؛ وتبييض وجهه امام القوى الخارجية  المؤثرة ؛ والتى احترق امامها بصورته كمتطرف اصولى .

 

ان التحالف مع قرنق يصب فى اطار الخطابين الثانى والثالث ؛ وهذا يؤدى بالضرورة الى نقض الخطاب الاول . الا ان الترابى محترق فعليا امام الراى العام السودانى غير الاصولى ؛ وامام  القوى الخارجية ؛ وكان مجال الدعم متاحا له فقط وسط القوى الاصولية الداخلية والخارجية ؛ وها هو قد استفزها الآن بتحالفه مع قرنق ؛ رمز كل ما هو معاد للاسلام فى نظرهم ؛ وكما صوره الترابى شخسيا لاكثر من عقد ونصف ؛  ولم يتبق له  من التاييد الا حفنة من المهووسيين ؛ ممن يعبدوه شخصيا دون الله ؛ فهل يستطيع هذا الرجل المغامر ان يخرج من المازق الذى اوقع نفسه فيه ؛ والعزلة الى ضربها على مشروعه  ؟ ام سيكون هذا الاتفاق بداية النهاية له ولحركته ؟ ان هذا يعتمد فى المقام الاول على الاطراف الاخرى من فوى النظام والمعارضة ؛ وقدرتها على الحركة والفعل ؛ مما سنتناول بعضا منه فى الفقرات القادمة .

 

اتفاق الصادق –الميرغنى

الهجوم المضاد للسيدين واعادة الحلف التاريخى :

 

كان الرد على اتفاق الترابى –قرنق سريعا ؛ فى سلسلة الاتفاقات الثنائية ؛ بتوقيع ما سمى بنداء السودان ؛ بين "السيدين " ؛ الصادق المهدى ومحمد عثمان الميرغنى ؛ والذى شكل هجوما مضادا لقادة الطائقتين السودانيتين ؛ واعادة لحلفهم التاريخى ؛ والذى ظن البعض انه قد اصبح جزءا من التاريخ ؛ ليعود باشد ما يكون ظهورا .

ان التوقيع على هذا الاتفاق ؛ قد جاء متسقا مع الازمة التى يعيشها هذان القائدان الطائفيان؛ والتى ذكرنا جزءا منها فى فقرات سابقة . ان الصادق المهدى الذى فشل فى تحقيق اى من اهدافه بعد الرجوع الى الخرطوم ؛ وبعد قطع علاقاته مع التجمع ؛ قد اصبح محاصرا ضمن حدود ضيقة يرسمها له النظام ؛ او قل يرسمها هو شخصيا على نفسه ؛ ويستغلها النظام ويكرسها . اما الميرغنى فقد فؤجى تماما بتوقيع حليفه قرنق ؛ مع عدوه الترابى ؛ مذكرة للتفاهم من خلف ظهره . واذا كان الحليف الرئيسى للميرغنى بعد انسحاب الامة من التجمع قد كان قرنق ؛ واذا كان خط المشاحنات والعداء بين الامة والتجمع قد دار بين الصادق وقرنق ؛ فى حرب رسائلهم المشهورة ؛ فان القرار  الطبيعى للميرغنى والمهدى قد كان اعادة حلفهم التاريخى ؛ فى محاولة لتكبير كومهم ؛ وانقاذ ما يمكن انقاذه من بنية العلاقات القديمة والنفوذ القديم ؛ المهددة من اطراف عدة ؛ فى فسيفساء السياسة السودانية .

ان هذا الاتفاق ؛ قد شكل صفعة قاسية لاولئك الذين زعموا بحدوث تغييرات فى سلوك وممارسات ومفاهيم القيادات الطائفية فى السودان ؛ وممن حلموا بان يقودهم الصادق تارة ؛ والميرغنى تارة اخرى ؛ الى بناء السودان الجديد . ان الاتفاق الحالى يوضح ان الحلف بين القادة الطائفيين استراتيجى ؛ والمنافسة بينهم عابرة . و ان ما يجمع قيادة الصادق والميرغنى ؛ من وحدة المصالح ؛ وتطابق البرامج ؛ وقسمة الجماهير والبلاد على اسس طائفية بين بيتيهما ؛ لهو اكبر بما لا يقاس مما يفرق بينهم من طموح الرئاسة ؛ وها نحن على مشارف القرن الحادى والعشرين ؛ نذبح السياسة على اعتاب القداسة ؛ وها قد عادت العرجاء الى مراحها ؛ وحليمة الى سيرتها القديمة ؛ واثبت المثل الشعبى صحته وحكمته ؛ من فوق رؤوس اصحاب المذاهب العلمية ؛ وعلماء السياسة الحديثة ؛ ممن عللوا انفسهم والآخرين ؛ بامكانية حدوث تغيير ما ؛ فى مواقف رموز وحراس القديم والتخلف ؛ ومن امكانية بناء ديمقراطية ما ؛ بالتعاون مع اوتوقراطية طائفية لا ياتيها الحق  من بين يديها ولا من خلفها؛ و لا يشكل الالتزام بمبدا ما ؛ غير مصالحها الضيقة ؛ اى قيمة معنوية او سياسية لقادتها .

ان قراءة جد سريعة فى متن نداء السيدين ؛ توضح قصوره عن كل مقررات التجمع الوطنى الديمقراطى ؛ وتراجعه حتى عن الحدود الانهزامية والاستسلامية التى يطبل لها الصادق المهدى . فالنداء يبدأ برفض وادانة مجمل العمل المسلح ؛ دون ان يفرق بين الحرب العدوانية التى يشنها النظام ؛ والمقاومة العادلة التى تقوم بها فصائل المعارضة الوطنية . ان هذا الموقف من المهدى لا يثير استغرابنا ؛ وهو الذى سرح قواته ؛ بل وجعل بعضها تحارب ضد رفاق الامس ؛ كما تم فى معركة كسلا؛ فى اطار خطه التصالحى مع النظام . الا ان ما يثير العجب توقيع الميرغنى على بند كهذا ؛ وهو رئيس التجمع الوطنى ؛ والذى تخوض قواته معارك باسلة ؛ ضد تحرشات النظام وحملاته العدوانية ؛ والتى لا تزال قوات حزبه الاتحادى ؛ قوات الفتح ؛ وان بصورة نظرية ؛ فى حالة حرب مع النظام . ان موقف الميرغنى هنا يتناقض مع مقررات مؤتمر مصوع الاخير ؛ والذى اجاز ضمن تكتيكاته لمواجهة النظام مبدا المعارضة المسلحة . ان الميرغنى بذلك يناقض مقررات المؤتمر التى وقع عليها بنفسه ؛ وقرارات التنظيم الذى هو رئيسه .

فى هذا الاطار ؛ فان عدم اشارة اتفاق السيدين ؛ ولو لمرة واحدة ؛ للتجمع الوطنى او مقرراته ؛ تبدو مفهومة ومنسجمة مع السياق العام للترتيب الجديد ؛ فى بعث الحلف الطائفى الثنائى التليد ؛ والذى لا يحتاج الى التجمع الوطنى لاسناده ؛ و لا لمقررات اسمرا او مصوع لتبريره . ان عدم الاشارة الى مقررات التجمع انما تشكل اشارة واضحة لتراجع القادة الطائفيين عما وقعوه من التزامات ؛ حول طابع الدولة ؛ ومستقبل نظام الحكم فى السودان ؛ وضرورة اصلاح البنية السياسية فى السودان . وعودة مرة اخرى الى البرنامج التقليدى فى معاملة قضايا البلاد ؛ اذا كان من الممكن اطلاقا اعتبار ذلك برنامجا ؛  من اعادة تاسيس النظام الديمقراطى الطائفى ؛ وتكريس التعالى القومى والثقافى ؛ وتهميش قوميات باكملها ؛ وعدم الاهتمام بالتنمية وتطور البلاد ؛ النهج الذى انتج الكارثة فيما مضى ؛ والذى سيقود اليها حتما فى المستقبل ؛ اذا ما صار له الانتصار .

 ان اتفاق السيدين من الجهة الاخرى ؛ ياتى استجابة لمطالب القوى الاقليمية ؛ والتى تبحث عن حل تصالحى فى السودان ؛ يخفف من غلواء النظام ؛ دون ان يهدد السيطرة العربية –الاسلامية فى السودان . ان اتفاق الترابى –قرنق قد كان صدمة لبعض هذه الاطراف ؛ باعتبار ان قرنق يركز على البعد الافريقى للسودان ؛ والترابى مغامر لا يحرص على علاقات السودان العربية ؛ وبه توجهات ايرانية اممية ؛ الامر الذى يجعل لحلفهما نتائج جد خطيرة على بنية السودان الاجتماعية ؛ وتوجهاته العالمية . ان واقع انعقاد اجتماع السيدين فى مصر ؛ وليس فى اريتريا او يوغندا او احد الدول الاوروبية ؛ يحمل ما يحمل من الدلالات ؛ حول اهمية هذا البعد الاقليمى والخارجى .

 

مصير  التجمع الوطنى الديمقراطى

وضرورة وحدة قوى السودان الجديد :

 

ان مصير التجمع ومستقبله الى زوال . هذا ما يبدو من قراءة جد محايدة لمتن وهوامش الاتفاقات الثنائية الاخيرة . ان واقعة توقيع السكرتير العام للتجمع ؛ السيد باقان اموم ؛ على اتفاق مع احد اعداء التجمع الاساسيين ؛ حسن الترابى ؛ وواقعة توقيع رئيس التجمع ؛ على اتفاق مع احد خصوم التجمع ؛ الصادق المهدى ؛ انما يوضح انعدام الوحدة والانسجام فى صفوف هذا التنظيم . انه من المثير للانتباه ؛ انه لا سكرتير التجمع ولا رئيسه ؛ قد ناقشا امر هذه الاتفاقيات مع شركائهم وحلفائهم فى التجمع .

ان بعض احزاب التجمع قد اقامت الارض ولم تقعدها ؛ حينما وقع مبارك الفاضل ؛ وهو وقتها سكرتير عام التجمع ؛ اتفاقية نداء الوطن فى جيبوتى ممثلا لحزب الامة ؛ بدعوى انه كسكرتير للتجمع ؛ لا يملك ان يوقع اتفاقات بصفته الحزبية ؛ دون تنسيقها مع التجمع . وها هى الان هذه الاحزاب تقبع ساكنة صامتة ؛ حينما يوقع رئيسها وسكرتيرها العام ؛ اتفاقات لا تمت لمقررات التجمع بصلة ؛ ولم يتم التنسيق معهم بشانها ؛ بل وتمت دون علمهم ومن وراء ظهرهم .

ان واقعة الاتفاقات الثنائية الاخيرة ؛ توضح ان اللاعبين الاساسيين وسط قوى المعارضة ؛ لا يحترموا تعهداتهم والتزاماتهم تجاه حلفاؤهم فى التجمع الوطنى ؛ وانهم يبحثون عن حلول ثنائية او فردية ؛ والتى غالبا ما تتناقض مع التزاماتهم السابقة ؛ وغالبا ما تكون ذات طابع حزبى صارخ .

اننا ولادراكنا بالطبيعة الحربائية واللامبدئية للاحزاب الطائفية ؛ وطبيعة تكوينها الفكرى المتخلف ؛ وبنيتها القائمة على ارادة زعيم الطائفة الفرد ؛ قد زعمنا ان هذه الاتفاقات المتعددة التى وقعت عليها فلى اطار التجمع ؛ قد كانت ذات صفة مؤقتة . بل وكنا ندرك ان طبيعة تحالفهم مع قوى الجديد ذات طابع مؤقت ولا مبدئى ؛ وها ان الايام تثبت صحة تحليلاتنا ؛ فى خروج حزب الامة اولا من صفوف التجمع ؛ وسير الميرغنى الان فى نفس الاتجاه .

ان ما يبدو من سير الحركة الشعبية فى نقس الاتجاه ؛ من الخروج على المواثبق ؛ والدوس على المبادى ؛ انما يضع موضع الشك ؛ كل شعاراتها المعلنة عن السودان الجديد ؛ ويشير الى انها اما قد تحولت  الى قوة تقليدية ؛ تبحث عن اقتسام السلطة مع "السادة " والكبار ؛ من سدنة السودان القديم ؛ او انها حركة تائهة ؛ تبحث عن الفعالية وعن حلفاء اقوياء ؛ دون ان تنتبه الى ضياع الاستراتيجى فى متاهة التكتيكات المرحلية ؛ او انها حركة عسكرية تحارب من اجل الحرب ؛ ولمصالح مادية او ذاتية لقيادتها ؛ وغير حريصة هى على ايجاد حل جذرى للمشكل السودانى ؛ وتوقع مع من شاء ما شاء من الاتفاقات  ؛ شرط ان يدعم مسيرتها العسكرية ؛ وقيادتها الفردية .

ان الخاسر الاكبر فى هذه اللعبة هى قوى السودان الجديد ؛ او القوى الجديدة ؛ والتى انضوت طويلا تحت جناح القادة الطائفيين ؛ او تحت بندقية جون قرنق ؛ عسى ان تبنى حلمها الموهوم عن جبهة موحدة لقوى المعارضة تطيح بالنظام . ورضيت ان تجمد برامجها وتعطل شعاراتها وتؤخر وحدتها ؛ من اجل استمرار هذة الجبهة ؛ وبغرض الاطاحة بالنظام . وها هى الان بعد ان زالت الغشاوة عن اعينها ؛ تجد نفسها مهمشة ومبعثرة على الساحة السياسية ؛ المحلية والعالمية ؛ فلا هى انجزت وحدتها ؛ ولا هى اعلنت برامجها ؛ ولا بقى حلفها الجديد وجبهتها العريضة  مع الطائفيين ؛ ولا اطيح بالنظام .

ان الاتفاقات الاخيرة من الجهة الاخرى ؛ سواء كانت اتفاقية الترابى –قرنق ؛ او الميرغنى – المهدى ؛ انما تكشف للجماهير وللقوى الوطنية انعدام المبدئية فى رموز الساسة السودانيين التقليديين ؛ وتعطى المجال واسعا لبروز قيادة جديدة ؛ توحد القوى الجديدة ؛ وتبنى مركزا جديدا للعمل السياسى ؛ قائما على وحدة الهدف والبرامج  والتكتيكات ؛ وعلى الشفافية فى العمل السياسى ؛ والديمقراطية فى ادارة المؤسسة التنظيمية ؛ والتجديد فى مجال الافكار والطروحات ؛ اى باختصار ؛ بناء وحدة قوى الجديد ؛ تحت برنامج للتفيير والتجديد ؛ وببنية تنظيمية موحدة ؛ وقيادة وطنية شابة وجديدة ؛ ديمقراطية وفعالة ؛ مرتبطة بالجماهير ؛ وملتزمة بتعهداتها .

ان وحدة قوى الجديد قد اصبحت ضرورة لا مفر منها ؛ اذا ما ارادت ان تخرج من واقع التهميش والتشظى ؛ واذا ارادت ان تعامل بجدية من قبل الاطراف المحلية والاقليمية والعالمية ؛ وان تعامل بجدية واحترام من قبل جماهير الشعب عموما ؛ وتلك القطاعات الناشطة اجتماعيا وسياسيا من القوى الجديدة التى تمور بها الحياة السودانية .

ان واقع اطلاق قوة ما على نفسها صفة الجديد ؛ لا يغير من طابعها اذا لم تلتزم بذلك فى شعاراتها المعلنة ؛ وبرامجها المطروحة ؛ وتحالفاتها العملية . اننا بذلك ننظر بعين الشك والارتياب ؛ الى تلك القوى التى تغيب شعارات التغيير؛ وتطمس برامجها فى وحدة زائفة مع قوى القديم ؛ وتهرب من بناء وحدة قوى الجديد ؛ وتحاول عبثا تخدير الجماهير وطمس وعيها عن واقع الازمة ؛ وتبحث عن مؤطى قدم لنفسها بالتحالف مع هذا الطرف الطائفى او ذاك ؛ او هذا الجناح من اجنحة السلطة ؛ بدلا من الاعتماد على الجماهير ؛ والتحالف مع غيرها من قوى الجديد . ان واقع الحال يكشف ان قيادة كل من  الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛ والحزب الشيوعى السودانى ؛ قد سارت فى هذا النسق ؛ ويبقى تصنيفهما ضمن قوى الجديد مشكوكا فيه ؛ حتى حدوث تغيير جذرى فى مواقفهما وتكتياتهما .

اننا ندعو كل قوى التجديد ؛ وكل القوى الجديدة ؛ سواء تلك التى كانت فى صفوف التجمع ؛ او تلك التى كانت خارجه ؛ الى بناء وحدتها ؛ وتاطير نفسها فى تنظيم واسع وطنى ؛ موحد وفعال ؛ قادر على تقديم البديل عن كل اجنحة السلطة ؛ وعن قوى القديم من قادة الحلف الطائفى ؛ كما هو راغب وقادر على منازلة النظام وهزيمته ؛ وعلى المنافسة والوصول الى السلطة فى اطار العملية الديمقراطية فى المستقبل .

ان القوى التى تزعم انتمائها الى القوى الجديدة ؛ وتلك التى تتمسك بمقررات اسمرا ؛ وتلك القوى الجذرية فى معارضتها للنظام ؛ وفى محاسبة مجرميه ؛ مدعوة الى تاطير كل دعواتها فى شكل جديد ؛ لا يدع مجالا للتناقض ؛ ولا يوجد فيه مكان للانتهازيين من سدنة السودان القديم . ان مقررات اسمرا ؛ وغيرها من انجازات المعارضة الوطنية ؛ معرضة الى ان تضيع هدرا ؛ اذا لم تجد اطارها التنظيمى ؛ والقيادة التى تتمسك بها ؛ وتناضل من اجلها . كما ان تضحيات منتسبى المعارضة ؛ وشهداء الكفاح ؛ معرضة الى ان تذهب ادراج الرياح ؛ اذا ما تم الاستسلام لمناورات القادة الطائفيين ؛ ومن يدعموهم من القوى التى تدعى انتسابها للجديد .

ان الجماهير الوطنية ؛ والقوى الفاعلة اجتماعيا وسياسيا وسط جماهير شعبنا ؛ وابناء القوميات التى همشت طويلا ؛ وجماهير المناطق المحررة التى قدمت النفس والنفيس ؛ تطلعا من اجل سودان جديد ؛ تتنتظر بخليط من اللهفة والياس ؛ بزوغ ذلك اليوم الذى تجد فيه تعبيرها السياسى والتنظيمى موحدا ؛ وبديلها الوطنى متبلورا ؛ ونضالها غير مهدد بالضياع ؛ وقضيتها غير قابلة للتمييع ؛ فهل آن وقت تحقيق ذلك الحلم الغالى ؛ والامل المرتقب ؟